اليوم ستنصّب الكنيست الإسرائيلي ربما أكثر الحكومات هشاشة في تاريخها، ولكنها أيضاً الأكثر تطرفاً لأن انزياح الجمهور الإسرائيلي نحو اليمين لم يتوقف منذ إقامة الدولة، لذا فإن مقولة إن أي حكومة تتشكل هي أكثر تطرفاً من سابقاتها هي مقولة طبيعية في إطار السلّم البياني الثابت الهابط نحو اليمين وهذه حكومة يترأسها مستوطن أو وريث التيار الاستيطاني الذي بدأ في الضفة الغربية بعد حرب 1973.
لقد وفرت حرب أكتوبر لهذا التيار فرصة عمره، فقد كان انتصار إسرائيل في حرب 67 وما عرف بالنكسة ورقة قوة للتيار العلماني في الداخل الإسرائيلي، ولكن الإخفاق في العام 73 أضعف ذلك التيار ووفر ريح إسناد للتيار القومي الاستيطاني الذي بدأ حربه الاستيطانية، وهو التيار الذي ورثه الآن نفتالي بينيت، الشخص الذي سيؤدي اليمين اليوم لرئاسة الحكومة الإسرائيلية.
نفتالي بينيت الذي كان يصنف باعتباره الأكثر تطرفاً بين وزراء حكومة بنيامين نتنياهو التي كان شريكاً فيها كان غالباً ما يبدو أنه يشكل معارضة لتلك الحكومات من الداخل، باعتبار أن حكومة يترأسها نتنياهو والليكود ويتشارك فيها ليبرمان كانت تعتبر حكومة وسط ويسارية برأيه، ولم يتوقف عن مشاكسة نتنياهو إلى الدرجة التي لم يعد يرغب الأخير بضم بينيت إلى الحكومة بل اشتكى أكثر من مرة بأن نتنياهو يرغب بتجفيفه من خلال الاستيلاء على أصوات ناخبيه عندما كان رئيس الوزراء الذي سقط يركز دعايته الانتخابية على معاقل بينيت.
نفتالي بينيت كان قد أعلن رفضه لصفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس التي تمت العام 2011، وبعدها بخمس سنوات كان عضواً في الكابينيت الإسرائيلي وكان قد وقع في يد حركة حماس جنديان إسرائيليان في الحرب قبل الأخيرة، وجرى العام 2016 تحرك لجس نبض إمكانية صفقة تبادل جديدة لكن بينيت حينها أعلن معارضته الشديدة لأي صفقة بل إنه أعلن عن منظوره الخاص بأنه على إسرائيل اختطاف قيادات من حركة حماس ومبادلتها كما فعلت إسرائيل عندما قامت باختطاف الشيخ عبد الكريم عبيد ومصطفى الديراني وقايضت عليهما في صفقة تبادل العام 2004 مع حزب الله.
في عدوان إسرائيل على غزة العام 2014 كان بينيت وزيراً للاقتصاد والمغتربين وعضواً في المجلس الوزاري المصغر الذي يقود الحرب.
لم تعجبه حينها إدارة الجيش للعدوان واشتبك مع الجيش والحكومة ورئيس وزرائها مطالباً بالدخول البري مهما كلف الثمن من ضحايا ومجازر يتم ارتكابها بين المدنيين وهدم غزة على رؤوس ساكنيها، ولم يهدأ إلا عندما تمكنت المقاومة من صد الدخول البري على مداخل الشجاعية وأسر جندي إسرائيلي أعلن رفضه لإعادته بصفقة بل بعملية اختطاف لقائد من حماس.
الأسرى يجب ألا يطلق سراحهم بل يجب أن يتم قتلهم، هكذا قال بينيت رئيس مجلس يشع الاستيطاني السابق ذات مرة، ولديه رأي سياسي فنتازي يقضي بضم مناطق «c» في الضفة الغربية وضم 50 ألف فلسطيني يقطنون بها إلى إسرائيل وهكذا بنظره ينتهي الخلاف العقاري مع الفلسطينيين، فهو يرفض الاعتراف بحل الدولتين أو حتى بأي اتفاقيات وقعت مع الجانب الفلسطيني مثل أوسلو وغيرها لأن الضفة الغربية بنظره هي جزء من أرض إسرائيل وهي المكان المقدس الذي دارت به أحداث التوراة، لا يجوز تسليمها للغير.
ومن سخرياته أنه ربما الإسرائيلي الوحيد الذي أعلن رفضه لصفقة القرن التي عرضها الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب العام الماضي لأنها بنظره أعطت الفلسطينيين أكثر مما يجب، وأن ترامب كان سخياً معهم وأن بنيامين نتنياهو يهادن في «الحقوق اليهودية على أرض التوراة» وهو غير جدير بقيادة إسرائيل لأنه كان قد اعترف بحل الدولتين في خطابه الشهير في جامعة بار إيلان.
إن أي قراءة لعقل نفتالي بينيت بمعزل عن قراءة التوراة لن تكون دقيقة لرجل قادم من عالم يخلط القومية والدين، ويعتبر أن الدين مرجعية في فهم وقائع الصراع على الأرض، صحيح أن إسرائيل دولة مؤسسات وصحيح أن القرار في نهايته يعود لمؤسسات الأمن القومي التي أسسها دافيد بن غوريون وهندس تفاصيلها ووضع القرار بيدها ولكن لا يمكن أيضاً التقليل من تأثير دور واتجاهات رؤوس الحكومات في إسرائيل.
ليس هذا فحسب ولنا أن نتصور أن يقف على يمينه جدعون ساعر وزير التعليم السابق الذي أعاد تسمية الشوارع والمناطق في الضفة الغربية بأسماء توراتية، ومعهم المستوطن أفيغدور ليبرمان الذي يسكن مستوطنة نوكديم المقامة على أراضي بيت لحم.
كل هذا في ظل اضمحلال وتلاشي اليسار في إسرائيل لنا أن نتصور أي حكومة تلك التي تقيمها إسرائيل اليوم، مغادرة نتنياهو للمسرح تنهي واحداً من أسوأ فصول التاريخ ولكن الصفحة الأخيرة التي تفتحها إسرائيل اليوم لن تكون أقل سوءا من مرحلة نتنياهو.
أمام بينيت معارضة قوية يقف فيها الحزب الأكبر على الجانب الآخر، يتهمونه بأنه انحرف يساراً وتلك تهمة سيظل مدافعاً عنها بخطوات تجنح أكثر نحو اليمين ولهذا ما يعززه من تركيبة الحكومة التي لم تعد العلاقة بين أطرافها وبين الفلسطينيين ذات اهتمام بمن فيهم ميرتس ومنصور عباس لأن لابيد الجوكر في الحكومة كان قد افتتح دعايته الانتخابية ذات مرة من المستوطنة، أما الجنرال غانتس صاحب التاريخ الدموي ليس رجل تسويات لنرى إذا كان التحدي الفلسطيني مع حكومة نتنياهو على درجة من الصعوبة لن يكون سهلاً مع حكومة المستوطن.
وهذا يفرض على الفلسطينيين الذين يمارسون ترف الخلافات السؤال الجوهري ما العمل وهو السؤال المفتوح والمتكرر دوماً بلا إجابة ربما يليق بواقع الصراع على السلطة بينهم.....!