في عام 1981 قرر أرييل شارون الذي كان وزيراً للجيش في حكومة إسرائيل، وهو الذي اشتهر لاحقا بأنه مرتكب جريمة صبرا وشاتيلا ومنظم اجتياح الضفة الغربية، إنشاء ما سمي بالإدارة المدنية كأداة تابعة للجيش لحكم الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وأتى بمستشرق من الجامعة العبرية اسمه مناحيم ميلسون، الذي لم يكن سوى ضابط مخابرات إسرائيلية برتبة كولونيل، ليرأس هذه الإدارة المدنية المزعومة والتي لم تكن سوى غلاف لحكم البطش العسكري والتوسع الاستيطاني.

ورغم توقيع اتفاق أوسلو، استمرت الإدارة المدنية بالعمل، واكتسبت زخما بعد اجتياح شارون لكافة الأراضي الواقعة تحت السيطرة المفترضة للسلطة الفلسطينية، وقد أصبحت فعليا منذ ذلك الحين تمارس مهامها كبديل فعلي للسلطة الواقعة تحت الاحتلال.  

جوهر فكرة شارون والادارة المدنية كان استبدال الحل السياسي بما سموه " الحل الاقتصادي"، الذي يضمن استمرار الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة، مع تدجين سكان الأراضي المحتلة بمغريات اقتصادية، على أمل أن يخضعوا ويتخلوا عن النضال الوطني لإنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية.

وترافق ذلك مع فتح الأبواب للعمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل، واستغلالهم طبعا لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي، ولإنشاء تبعية اقتصادية راسخة لإسرائيل.

ورغم أن تلك السياسة قد حسنت مداخيل الكثير من العمال دون أن تقلل من أرباح المستغلين الإسرائيليين ، فإن الشعور الوطني واصل التعاظم، كما أن الإحساس بفقدان الكرامة نتيجة قمع الاحتلال والتمييز العنصري ما انفك يتصاعد ، وكانت سياسة الحل الاقتصادي الشاروني على موعد مع القدر عندما انفجرت أروع وأعظم انتفاضة شعبية فلسطينية في الثامن من أيلول عام 1987.

وهكذا تبخرت فكرة الحل الاقتصادي، وثبت أنه ما من بديل عن الحرية لشعب يرزح تحت الاحتلال والقمع والتمييز العنصري.

أما اليوم فقد عاد خلفاء شارون، ومعهم فريق ترامب الأميركي، للترويج لما يسمونه " الحل الاقتصادي" دون أن يتعلموا من تجربة الماضي الأليمة.

وهم يظنون أنهم يستطيعون تدجين الشعب الفلسطيني برشاوى اقتصادية، ووعود بمليارات الدولارات من أطراف عربية، شريطة أن يقبل أبناؤه وبناته بأن يكونوا عبيدا للاحتلال ولنظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي، ويقبلوا بالتنازل عن القدس، وعن حق اللاجئين في العودة، وعن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال.

ويخدع هؤلاء الخلفاء أنفسهم، ويحاولوا خداع المبعوثين الدوليين، بكلام معسول سمعوه من المتسولين على موائد المساعدات المشبوهة، ومن بعض أصحاب المال غير الوطنيين، وبعض محترفي التضليل الذين لا يفكرون سوى بمصالحهم الشخصية على حساب شعبهم.

الكلام المعسول يوهم من يخططون لتصفية القضية الفلسطينية بأن الفلسطينيين سيقبلون "بالحل الاقتصادي" والاستكانة، على حساب حقوق شعبهم ومستقبلهم وكرامتهم.

وللترويج لذلك، يحاول حكام إسرائيل استغلال مشاعر الإحباط الناجمة عن استمرار الانقسام الداخلي الفلسطيني، أو الشعور بعدم الجدية في التنفيذ الفعلي للقرارات الهامة التي اتخذها المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

غير أن نظرية " الحل الاقتصادي التصفوي" لا تفهم وتتجاهل المغزى العميق لما جرى في القدس في شهر تموز من العام الماضي عندما انتفض المقدسيون الفلسطينيون وجعلوا من محيط المسجد الأقصى " ميدان تحرير"، وساحة انتفاضة، أجبرت نتنياهو على التراجع ذليلا، وهو الذي يتنمر كل صباح على حكام المنطقة ودول العالم.

وهذه النظرية لم تتعلم الدرس من ما جرى في الانتفاضة الشعبية الأولى، ولا من حقيقة أن انتفاضة ثالثة تجري على شكل موجات في فلسطين منذ بداية عام 2015، وتُظهر من حين لآخر، كما جرى في جنين المرجل الذي يغلي تحت الرماد.

بإمكان أصحاب هذه النظرية أن يواصلوا خداع أنفسهم بما يسمعونه من كلام معسول في الفنادق وبعض المكاتب الدبلوماسية، ولكنهم سيصحوا ذات يوم على وقع أحداث الواقع والوقائع التي يحاولون تجاهلها.

أما المسئولون الفلسطينيون فإن عليهم أن أرادوا حماية قضيتهم من التصفية أن يحققوا أمرين فورا: إنهاء الانقسام الداخلي البغيض الذي لم يعد سوى صراع على سلطة ومناصب ومكاسب، في بنيان واقع بكامله تحت الاحتلال، وثانيا التطبيق الفعلي والفوري لقرارات المجلس المركزي حتى يأخذهم شعبهم أصدقاؤهم، وأعداء الشعب الفلسطيني على محمل الجد.

أما المخططون والمستشرقون وبعض الدبلوماسيين فدعونا نقول لهم لا تحلموا برشوة شعب جُبِل أبناؤه وبناته بالنضال من أجل الحرية، والأيام بيننا.