انتهجت القيادة الفلسطينية بقرار من رئيسها محمود عباس نهاية شهر مارس الماضي في العام المنصرم، سلوكاً مفاجئاً على الساحة الداخلية الفلسطينية، لم تكن تفكر به سابقًا طيلة سنوات الانقسام.
واتخذت القيادة التي تتحكم بمفاصل السلطة، مجموعة من الإجراءات الإدارية التي وصفها البعض بـ "العقابية" ضد غزة، لكن قرارها باقتطاع أجزاء من رواتب موظفيها في غزة، وصولاً إلى صرف نسبة 50% وأحياناً تطول مدة الصرف عدة شهور، كان الأبرز والمؤثر على الحالة الداخلية، فهي تتحدى به عنصر الزمن !! .
ويصر صناع القرار داخل أروقة السلطة، على أن المسألة المالية لها تأثيرٌ كبير على حركة "حماس" لإضعاف حكمها بغزة، بذريعة إرغام الأخيرة على تطبيق اتفاقيات المصالحة وصولاً إلى تحقيق الوحدة.
فيما يرى محللون سياسيون، أن قرار الرواتب الذي اتخذه الرئيس، بالإضافة إلى الإجراءات الأخرى التي لوح بها، بعد اتهام "حماس" بالمسؤولية عن تفجير موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله في شهر مارس الماضي، أثرت بشكل ملحوظ على "حماس" بصفتها الجهة الحاكمة وليست كحركة أو فصيل.
وشملت الإجراءات أيضًا، تقليص التغطية المالية لفاتورة الكهرباء والتحويلات العلاجية والأدوية، وهذا ما انعكس سلبًا على الأوضاع الإنسانية والاقتصادية في غزة، وسط مطالبات شعبية وفصائلية بالعدول عن القرارات التي اتخذت ضد القطاع.
وفي نفس الوقت، أجمع هؤلاء خلال حديثهم مع "الوطنية"، على أن ضررًا عميقًا وقع على كاهل الموظف الذي هو بالأساس مواطن أنهكه الحصار الإسرائيلي منذ أكثر 11 عام.
وكانت السلطة تدفع نحو خمسين مليون دولار رواتب لنحو خمسين ألفا من موظفيها بغزة، قبل أن تخصم في أبريل- نيسان 2017 ثلث الرواتب ثم بعد وصل ذلك إلى النصف، بالإضافة إلى إحالة نحو عشرين ألف موظف عسكري للتقاعد الإجباري المبكر، وهو ما حرم القطاع من سيولة نقدية ليست بالقليلة.
ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، أن قرار خصم وقطع الرواتب غير قانوني، وهو قرار سياسي بالأساس له علاقة بالمصالحة، لا سيما أنه أُقر بفعل حالة التناقضات والانقسامات القائمة.
ويريد كل طرف استخدام أوراقه الخاصة التي يملكها، للضغط على الطرف الآخر حتى يقبل بشروطه، فيما توقع عوكل أن تستمر السلطة في قراراتها لمدة أطول، وربما تتسع دائرتها في الفترة المقبلة.
وكان لعضو المجلس الوطني والوزير السابق نبيل عمرو، رأي مغاير، إذ يقول إن الإجراء المالي لم يؤثر على "حماس"، بل كان له تأثيرٌ سلبيٌ على السلطة الفلسطينية، رافضًا توجيه اتهامات لأحد في هذا الموضوع.
وشدد عمرو "للوطنية" على ضرورة وقف جميع الإجراءات، الذي تمنى ألا تطول أكثر، معتقدًا أن الورقة المصرية الجديدة وافق عليها الطرفان، "حيث تتحدث على إنهاء الإجراءات كافة، وتطبيق بنود المصالحة بالكامل".
قرارات وصفت بـ "المتخبطة"
أما الكاتب السياسي والمقرب من صناع القرار في "حماس" أحمد يوسف، أقر بأن الإجراء الذي استهدف الموظفين خصيصاً، أضعف من صمود سكان قطاع غزة، وجعل الكل يعاني بما فيها "حماس"، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.
ووصف يوسف قرارات السلطة بـ المفاجئة والصادمة بالنسبة للشارع الفلسطيني، مستبعداً أنها اتخذت في إطار مؤسساتي، "وإنهما اتخذت من قبل بعض "المتنفذين" سواء من المقربين من الرئيس أو من أعضاء اللجنة المركزية لفتح".
ورد على سؤال" هل ستؤدي تلك الإجراءات في نهاية المطاف إلى مصالحة حقيقية؟"، قائلاً:" لقد كان لهذه القرارات تداعيات كارثية على الحالة الفلسطينية، فالكثير منها لم يخضع لدراسة، وانعكست سلباً على واقع "فتح" الداخلي والناس بشكل عام".
وأكمل يوسف إجابته:" جميعها قرارات فيها تخبط واضح وليست مبنية على قراءة صادقة عن الوضع في غزة.. لا سيما أن القيادة في رام الله فقدت احترام الناس الذين بدؤوا يوجهون اتهامات لها وللحكومة، دون ذكر حماس".
وبحسب ما قاله يوسف الذي كان يعمل مستشارًا سياسيًا لإسماعيل هنية قبل أن يصبح رئيس المكتب السياسي لحماس، فإن الشخص المسؤول عن قرار خصم وقطع رواتب الموظفين هو الرئيس عباس، مؤكداً أن الأمر لا يتعلق بتحقيق الوحدة، وواصفاً هذه القرارات بأنها مجرد تقديرات خاطئة وحسابات غير مسؤولة، " ومن يأتي بهذا الكلام فإن باعه في السياسة محدود، ويسعى لإضعاف مكانة السلطة في غزة والضفة".
"الرئيس يجمل صورته"
من جهته، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم "للوطنية"، أن حل الخلاف السياسي لن يأتي من خلال فرض إجراءات وصفها بـ "العقابية" وغير القانونية والأخلاقية على مستوى الوطن، موضحاً أن "إسرائيل" بدأت تتهم السلطة الفلسطينية بحصار شعبها في غزة، وتحاول أن تتملص من حصارها المستمر حتى الآن.
وللتذكير، قال الرئيس أمام حضور واسع باختتام اجتماع المجلس الوطني الذي عقد في شهر خمسة الماضي، إن الحكومة لم تتمكن من دفع رواتب الموظفين في قطاع غزة الشهر الماضي لأسباب فنية، وليس عقابًا كما يدعي البعض"، معلناً وقتها أنها ستصرف اعتبارًا من الغد.
وبلهجة حادة سجلتها جميع وسائل الإعلام، شدد الرئيس لحظتها على أنه لا يقبل بكلمة إجراءات عقابية أو عقوبات، "فلا يوجد من يعاقب شعبه، وإنما هي إجراءات فنية".
وفي قراءة كلام الرئيس وقتها عن الرواتب، قال إبراهيم:" للأسف ما قاله كان تجميل صورة ليس أكثر، ومحاولة تحميل الحكومة عن شيء ليست مسؤوله عنه".
وحول موقف حركة "فتح" الرسمي من القرار من وجهة نظر إبراهيم الذي تساءل:" إذا كان ممثلو فتح يدافعون عن العقوبات، فكيف لهؤلاء الموظفين أن يخرجوا إلى الشارع ويطالبوا بحقوقهم".
وحوالي 50 ألف موظفاً من حكومة "حماس" يتلقون رواتبهم من الجباية الداخلية المرتبطة بحركة السوق، منوهاً إلى فقدان حوالي 20 مليون دولار شهريًا من السوق، نظرًا لعدم وجود سيولة مالية بفعل قرار خصم رواتب موظفي السلطة الذين يشكلون النسبة الأكبر في غزة، قد تكون مؤشرات إبراهيم قريبة من الواقع الذي بدوره قال إن الأمور زادت من أعباء "حماس" المالية، وهذا جعلها تصرف رواتب موظفيها كل 40 يوم وأكثر أحيانًا.
وتجاوزت معدلات البطالة في غزة 43%، وترتفع بين فئة الشباب والخريجين لتصل إلى نحو 60% يشكلون أكثر من ربع مليون غزي، بينما حُرمت أكثر من 70% من الأسر الأمن الغذائي، وفق إحصاءات رسمية.
واعتمدت حركة السوق في قطاع غزة بشكل أساسي على رواتب موظفي السلطة خلال سنوات الحصار، لكن خصم نصف رواتبهم -بواقع عشرين مليون دولار شهريا- أصاب الاقتصاد في مقتل.
المصدر : الوطنية_ ليث شحادة