الموسيقى، كلمات الشعر التي صرخت بكل معاني الحرية والحياة، ضحكات الشباب، بهجة قاعة الاحتفالات، بصمات أقدام الفنانين على خشبة المسرح، أصوات الممثلين والموهوبين، الرجفة والضحك والبكاء خلف الكواليس، المقاعد الحمراء المثقلة بالطاقات والطموحات جميعها تنشد الآن وداعها الأخير.
صرح ثقافي جديد أضحى أثراً بفعل همجية المحتل، بعد تدمير الاحتلال لمبنى مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم، والذي سبقه تدمير قرية الفنون والحرف في مبنى الكتيبة، التي تهتم بمواهب الرسامين بمختلف أعمارهم وتعبر عن أصالة تراثنا وحضارتنا.
لم يكن "المسحال" مجرد مؤسسة للثقافة، بل كان بمثابة الملآذ الآمن للعديد من الفنانين والممثلين والكتاب والشعراء في غزة، كان المكان الذي ينثر به الشباب الفرح على وجوه الحاضرين.
يقول الكاتب والمخرج المسرحي ماهر داوود: "المسحال مساحة ومتنفس لكثير من الفنانين الغزيين، عالم صغير لنا في ظل حالة الإغلاق التي نعاني منها".
وأضاف داود في حديث لـ "الوطنية": "حربنا مع الاحتلال الإسرائيلي حرب ثقافية بالدرجة الأولى صراع معرفة وإثبات حق، المسحال لوحة ونص شعري ولحن ومسرحية هو ليس حيز مكاني بقدر ما هو حياة لنا جميعا".
الكثير من الآمال بُعثرت مع ركام هذا الصرح العظيم، يقول الكاتب الفلسطيني محمود جودة: "قطف الاحتلال زهرة هذه المدينة، قطف الذكريات والذاكرة".
وتابع جودة: "كان أحد الأماكن التي تدعونا لأن نتمسك بهذه المدينة الصعبة المملة، يساعدنا في التقاط الأنفاس والتماس الضحك، والتقاء الأحبة والأصدقاء ممن عز مواعدتهم وباعدت بينهم المسافات".
كل من وطأت قدمه داخل هذا المكان الوحيد الذي يعنى بالثقافة في غزة والذي يحمل رسائل فن للعالم، أصبح يحمل بداخله ألم كبير أصاب قلبه.
يقول أحمد أبو مصطفى، وهو أحد الأصدقاء القدامى لمؤسسة المسحال: "كنا نقضي أوقاتًا ممتعة في مشاهدة العديد من العروض المسرحية والفن الهادف، ولم أكن أعلم أنني سأستحضر مسرحية "آه يا قلبي" لأُعيد تكرار الآهات على ما جرى بعد الاستهداف، ولم أكن أعتقد أنّ الحفل الطربي المنعقد في يناير هذا العام سيكون آخر حفل طربي، هذه جريمةٌ كبرى، إذ لم يبقَ لدينا الآن أصوات طربية في المكان سوى أصوات الصواريخ القامعة للمبنى والوجدان".
ويتساءل الفنان رؤوف البلبيسي، أحد أعضاء فرقة دواوين الفنية "لأنَّ الأجوبة فقدت صلاحيتها منذُ زمن، أتساءل هل 70 عاماً من الحروب والقصف والقتل أتت أُكلها بالقضاء على قضيتنا وثقافتنا التي أُسرجت قناديلها بدماء شبابنا وأطفالنا"، وأكمل حديثه قائلا: "وجعي لا يلُخص ؛ رغم ذلك سنبقى رحم الحياة الولّاد الذي لن يُعقم".
كما استنكرت الكاتبة الروائية ليندا الأعرج جريمة استهداف المسحال معربةً عن ذلك "جريمة مؤسسة سعيد المسحال التي آلمتنا جميعا جريمة بحق الثقافة والإنسانية، يحاول الاحتلال قتل جوهر القضية لكنه بإس لهم".
ويسعى الاحتلال إلى استئصال الشباب المبدع من جذورهم التاريخية باستهداف حاضرهم وتدمير أماكنهم الثقافية، حيث قال الشاعر مصلح أبو غالي: "المستَهدف الحقيقي هنا ليس المسحال بل الثقافة الفلسطينية كافة".
وأضاف أبو غالي: "لم يكنْ للمبنى علاقة بأي نشاط سياسي إنما كان مخصصًا للكلمة ولا أعجب من استهدافه فالذي استهدف غسان كنفاني واغتال العديد من العلماء الفلسطينيين لن يصعب عليه تدمير مجرد مبنى -في نظره -".
وتابع: "لا أقول أن الثقافة اندثرت وانتهت بانتهاء المسحال ولكني أقول أن الاحتلال اغتال مجموعةً كبيرةً من الذكريات التي كنا نربيها داخله كمجموعة من الأطفال تهتم بأحلامها السعيدة التي لم تصلها يدُ الموت من قبل".
لكن لم يستسلم الفلسطينيون للدمار كما هي عادتهم، فمع كل حجر يسقط يخرج أبنائها صامدون منادون بالحرية كل على طريقته.
فعلى أنغام "موطني" أدى فنانون من غزة عروضا فنية على أنقاض المبنى المهدوم، كما جرت العادة بأن ينفذوها داخله، بهدف إيصال رسالة تحد للاحتلال بأن هذا الوطن حيا بأبنائه مهما تجبر الاحتلال.
المصدر : الوطنية - يارا أبو شنب