يميل جمهورٌ كبيرٌ من مواطني قطاع غزة إلى تعميمِ نظرته البسيطة عما يعانيه من بؤس الحياة، والتي تكونت على مدار عقد وأكثر من مستويات الضغط النفسي العالي وما تتركه الصدمات المفاجئة والمتكررة واللامتناهية.
فمن السهل على أي مواطن يعيش في بيئة اجتماعية غير مستقرة ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا كغزة، أن يعرف حجم الضرر النفسي الواقع على كل المواطنين، إلا أنه وبالمقارنة مع نسبة المرض النفسي يبقى واقع علاجه محدودًا.
عند سؤال عدد من المواطنين عن تقييمهم الذاتي لأنفسهم، وشعورهم بشيء من العقدة أو الصدمة النفسية، أكد البعض تأثره الشديد نفسيًا بسبب المصاعب التي يمر بها دون القدرة على التخلص من سلبياتها في حياته، فيما أشار آخرون إلى محاولاتهم الحثيثة للخروج من واقع تراكم الأحداث الخارجية والشديدة والفجائية التي تؤثر على أعصابهم.
وتلاقت الإجابات حول عدد من الاضطرابات التي يعاني منها الكبير والصغير بغزة، كالقلق والخوف والأرق والاكتئاب بأنواعه، وغيرها من نواتج ضغط ما بعد الصدمة، دون نفي أي أعراض مزمنة للهواجس واضطرابات الفكر والهلاوس والفصام بأنواعه وتأثيراته على شخصية الفرد.
وتُظهر الإجابات حجم الفجوة الكبيرة بين المواطن والطبيب النفسي أو العلاج النفسي كثقافة مهمة لها أثر كبير في تجاوز العديد من الأمراض، إما خوفًا من نظرة المجتمع، أو أزمة الثقة بين المواطن والطبيب النفسي وقدرته على الإفادة، أو عدم اكتشاف المرض وقدرته على التشخيص السليم لحالته.
ومن خلال حديث "الوطنية" مع عدد من الأخصائيين النفسيين الذين أكدوا عدم وجود دراسة مسحية شاملة توضح واقع الأمراض النفسية في قطاع غزة أو حتى في كافة الأراضي الفلسطينية، إلا أنهم أجمعوا على وجود دراسات لعيناتٍ محددة لأمراض معينة، وذلك بفعل كثير من التحديات والمعيقات التي تواجه مراكز التأهيل ووزارة الصحة.
أسباب مجتمعية
وتقول الأخصائية النفسية سمر عوض، إن المواطن الفلسطيني برغم إقباله المتزايد في الآونة الأخيرة على جلسات العلاج النفسي إلا أن "الوصمة المجتمعية" ما زالت تحول بينه وبين ثقافة جلسة العلاج للتعامل معه كأي مرض عضوي أخر.
وتؤكد عوض في حديثها لـ "الوطنية" أنه وعلى الرغم من حاجة نسبة كبيرة من الشباب "ذكور وإناث" وكذلك الأطفال والأسر بشكل عام للعلاج النفسي، بسب الحروب والنزاعات المتكررة في فلسطين خصوصًا في قطاع غزة، إلا أنها لا تفضل الانخراط في العلاج النفسي لأسباب مجتمعية بالدرجة الأولى.
وتضيف "مجتمعنا في ظروفه الخاصة التي يمر بها أدت إلى تشبعه بالأمراض النفسية المختلفة، وما لها من الانعكاسات السلبية، ويمكن تسميته "مجتمع أمراض ما بعد الصدمة" كالاكتئاب والقلق والوسواس القهري... وغيرها.
وترى المتخصصة أن العلاج النفسي بغزة يعتبر من الاحتياجات الأساسية، فمن المفترض أن يتم طرحه كثقافة إيجابية بشكل أوسع من قبل وزارة الصحة للحد من تفاقم الامور والسيطرة على الأعراض الموجودة عند المجتمع بشكل واسع، مضيفةً "لأن الاقبال الموجود على العلاج في الغالب يكون بعد يأس المواطن الخرافات والشعوذات والثقة بالشيوخ كما هو سائد".
وتشير من خلال دراسة أجرتها على عينة محدودة، أن نسبة الإصابة في المرض النفسي لدى الذكور والإناث متساوية إلى حد ما، إلا أن نسبة الإناث أكبر في الغالب لوجود ضغوط مجتمعية أكبر تمارس بحقها.
الراغبين في العلاج كثر، ولكن
ويرى مدير مركز "غزة المجتمعي" (أحد مراكز برنامج غزة للصحة النفسية) حسن زيادة، أن واقع المرض النفسي لا يقاس من خلال الجانب الانطباعي الذي يعتمد عليه المواطن في الحكم على الأشياء بسبب الظروف المحيطة، كأن تُجمع نسبة كبيرة من المواطنين على تفشي الأمراض النفسية في المجتمع دون دراسة مسحية توضح الأسباب والأنواع والطبيعة المحيطة والعوامل المؤثرة والتحديات وغيرها.
ويؤكد الأخصائي النفسي، وجود نسبة لا بأس بها من الأمراض والعقد النفسية بين مواطني قطاع غزة بسبب الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إلا أن نسبة الراغبين في العلاج وإيجاد حل لما يعانون منه بازدياد خصوصًا بعد الحروب الإسرائيلية على القطاع، والتي كان لها سبب كبير في أي من الخبرات الصادمة وتأثيرها على المواطن.
وتُعرفّ الخبرة الصادمة بأنها عبارة عن ذلك الحدث الخارجي الشديد الفجائي وغير المتوقع والذي يترك الإنسان مدهوشًا ومشدود الأعصاب، حيث تعتبر هذه الظروف سمة أساسية في يوميات المواطن بغزة، حسبما قال.
ويوضح أن النسبة الكبيرة من الحالات الموزعة على مراكز الصحة المختلفة استطاعت التخلص من مفهوم الوصمة للتغيير من حالتها، إلا أنه وبالرغم من محاولة هذه المراكز المجتمعية زيادة وعي الأهالي والمجتمع في موضوع الصدمة وكيفية التعامل معها إلا أنها تبقى معيقاً أساسياً في العلاج واكتشاف المرض مبكرًا بسبب الواقع الثقافي والاجتماعي المفروض.
وأكد الأخصائي زيادة وجود تحسن في كثير من الحالات وهناك بعض الحالات بحاجة لوقت أطول، وهذا يعتمد على الصدمة والواقع والسرعة في اكتشاف الحالات.
التعرض للمرض النفسي سهل جدًا خصوصًا في بيئة مثل قطاع غزة، وكذلك إقناع العامة بتحويل العلاج من وصمة إلى ثقافة مجتمعية وإلغاء الصورة النمطية القديمة ليس أمرًا صعبًا لكنه يحتاج إلى توجيه الأنظار والجهود بهذا الخصوص أكثر وأكثر.!
خاص - الوطنية - فادي بارود
المصدر : الوطنية - فادي بارود