ترك الرئيس محمود عباس بإعلانه الساخن والبارد في آن واحد !، المتعلق بإيقاف العمل بجميع الاتفاقات المبرمة مع "إسرائيل" منذ ربع قرن، الشارع الفلسطيني والساسة والمراقبين الفلسطينيين أمام أسئلة مستعصية، وقد تكون مُفخخة إذا كان (الرئيس) فعلاً يجُهز قنبلة ذات حشوة شديدة الانفجار من مفهوم قوة التطبيق والتسلح بالشعب مثلما كان في الانتفاضتين الأولى والثانية في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، لتغيير الواقع برمته. أم أن الأمر ليس كما وصفناه بتاتاً، وبذلك سنقف أمام مشهد دراماتيكي لا أكثر.
ما قصدناه أن تلك الأسئلة، إجاباتها بكل الأحوال خاضعة للشك، بالرغم من السخونة التي كانت تخرج من جسد الرئيس على شكل رسائل مبطنة، في اجتماعه الأخير مع القيادة برام الله، إذ تم وصف الاجتماع قبل عقده بأيام معدودة على أنه "مفترق طرق" !
من الواضح أن عصيب الملامح وحاد اللهجة بخطابه الذي كان يزج فيه آيات من القرآن الكريم بين الفينة والأخرى والمعنون لنقاطه السياسية التي سطرها في ورقة كان يقرؤها وأمامه "مايك التلفزيون الرسمي"، أراد أن يبعث رسالة عاصفة إلى إسرائيل الدولة المارقة، وأمريكا ترمب المنحازة والمعترفة بشرعية الاحتلال على الأرض الفلسطينية، وأوروبا القلقة والمتأسفة على ضياع حل الدولتين، مفادها مختصر:" لقد سئمنا من الوضع الحالي".
لقيمته الهامة والسابقة في أروقة السلطة وقيادته لعدة مناصب فيها، أجرت "الوطنية" مقابلة هاتفية مع الكاتب والسياسي الفلسطيني والمنتمي فكرياً لحركة فتح، نبيل عمرو، لمعرفة قراءته السياسية من موضوعنا، وتصدى للسؤال الأول الذي كان صيغته تحوم حول تقييم الشارع الفلسطيني لقرار الرئيس، إذ طالب الفلسطينيين بعدم التسرع في التقييم، والانتظار بعض الوقت، لمعرفة كيف يمكن تطبيقه، لا سيما في إهانة إسرائيل للسلطة، مستغرباً من موقف إسرائيل والمجتمع الدولي، قائلاً:" الإسرائيلي استخف بالقرار بشكل واضح، وتحول ذلك إلى حديث للصحافيين، ولا يوجد على مستوى العالم ردود فعل قوية، وفي نهاية المطاف اتخذ بناء على مقدمات ودوافع سابقة مرتبطة بالسلوك الإسرائيلي".
من ضمن الأسئلة المستعصية: لماذا اختار الرئيس الإيقاف وليس الإلغاء، فهناك فرق بالمعنى بين الكلمتين، وهل الرئيس جاد هذه المرة في تطبيق قرارات المجلسين الوطني المركزي المتعلقة بتحديد العلاقة مع "إسرائيل"، وأنه سيقلب الطاولة بوجه الإسرائيليين والأمريكان؟، وهل لديه الخطط اللازمة للانفكاك أمنياً وسياسياً واقتصادياً عن إسرائيل، أم أنه مجرد قرار دراماتيكي؟
سنكتفى بهذا القدر من الأسئلة، حتى لا نصطدم بحالة الاستهتار التي لمستها "الوطنية" في الكاتب السياسي والمفكر الفلسطيني عبد الستار قاسم، إذ قال إنها" ليست المرة الأولى التي يقولها عباس، فقد قالها سابقًا بالأمم المتحدة، فإننا نريد أن نرى كلامه يطبق في الميدان"، مشككًا بجدية قرار وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل حتى لو كان هناك حديث عن لجان تتكفل بهذا الأمر، لاعتبار أن ذلك يهدد مصالح السلطة وحركة فتح التي استبعد أن تصنع شيئًا للحالة الفلسطينية.
وبشأن اللجنة التي تحدث عنها الرئيس، ألقى عمرو المعترض على انتخابات المجلسين الوطني والمركزي الأخيرتين، أمامنا سؤالاً وهو:" هل اللجنة التي شكلت ستعمل على نمط اللجان السابقة؟. ويرى أن الشعب، حذر ومراقب في ذات الوقت، لأن الرئيس اتخذ سابقًا نفس القرار ولم ينفذه، متسائلاً:" كيف يطبق على صعيد التنسيق الأمني، فالورقة الأساسية بيد الفلسطينيين هو التنسيق الأمني؟
وقامت الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة نتنياهو، بشكل ممنهج بتقويض كل الاتفاقيات الموقّعة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي أبرمت عام 1993، من خلال المزيد من الاستيطان واستهداف القدس، والقتل والاعتقال اليومي للفلسطيني، واستمرار حصار غزة وقرصنة أموال الضرائب الفلسطينية مؤخراً.
عبد الستار قاسم المعروف بمعارضته الشديدة لنهج السلطة الفلسطينية التي بدورها اعتقلته لأكثر مرة على خلفية آرائه السياسية، أشار إلى أن الرئيس يعيش حالة من اليأس والإذلال من قبل إسرائيل، نتيجة ضياع حلم الدولة الفلسطينية، وعدم اعتراف "إسرائيل" بالحقوق الوطنية للفلسطينيين، "إنها تتمادى وتنفي وجود الفلسطيني من الأصول". فيما قال إن الرئيس لا يضع خطط وبرامج واستراتيجية لأي قرار يتخذه.
تجربة السلطة في عهد ( أبو مازن) مع القضايا المصيرية والتلويحات المتكررة بإعادة النظر في ملحقات اتفاق أوسلو قبل أن يتخذ الرئيس قراره سلفاً، تحتم على كل مراقب للمشهد أن يشك في أمر الرئيس، ويتساءل مثلما تساءل قاسم: ما المطلوب من الشعب في حال قررنا وقف العمل بالاتفاقيات مع دولة الاحتلال، وأين رؤيتنا وبرنامجنا والخطط البديلة لمواجهة إسرائيل وأمريكا؟
وكانت كلمة "الترحيب" بارزة في كل بيانات الفصائل الفلسطينية بما فيها "حماس والجهاد الإسلامي" التي خرجت عقب الخطاب، مع ربط " لكنْ" التي تفيد الاستدراك في اللغة، في طلب شديد مُراد من الرئيس تطبيق قراره على أرض الواقع، وخاصة فيما يُخص العلاقة الأمنية مع إسرائيل. فهذه الفصائل تمنت ألا يكون هذا القرار مجرد تكتيك سياسي برز في خطاب حماسي، فالجميع يرغب بالانتقال من حالة التأقلم الرهيبة التي أصبح معتاد عليها الشعب في الضفة وغزة والقدس إلى حالة جديدة ذات أساليب ثورية، تنعش المشروع الوطني وتعيد أمجاد الهبات والانتفاضات الشعبية والمسلحة قبل فوات الآوان، بدلاً من الشكوة والتباكي على ما تفعله إسرائيل دولة الاحتلال بالشعب الفلسطيني منذ تأسيسها عام 1948.
استكمالاً لما قيل في الأعلى، لم يتحرك أو يتفاعل الشارع الفلسطيني قط مع قرار الرئيس، حتى حركة "فتح" لم تخرج عناصرها بمسيرات داعمة لرئيسها فكيف نندهش من صمت الشعب المريب ؟. فالمحلل السياسي مصطفى إبراهيم قال في رحاب مقال نشره قبل أيام:" هذه المرة لا أريد افتراض سوء النية تجاه قرار الرئيس محمود عباس وقف العمل باتفاقيات أوسلو، وأحاول الانتظار ربما تكون هذه المرة جدية، غير أن المعطيات تجعلني أخشى من جديتها".
ويعود مصطفى إبراهيم ليذكرنا، بأنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها الإعلان عن وقف الاتفاقيات، وقرار المجلس المركزي في العام 2015، وقرار المجلس الوطني ٢٠١٨ مثالان أمامنا، يذكراننا بعدم" جديدة وثورية قرار الرئيس عباس الذي من المفترض أنه يقود حركة تحرر وطني وليس سلطة حكم ذاتي فقط"، بحسب شهادته.
مدير دائرة شؤون المفاوضات في دائرة العمل والتخطيط الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير، جمال البابا، وصف قرار القيادة الفلسطينية بـ "الجريء"، قائلاً إنه محفوف بالكثير من المخاطر، ويتطلب الالتفاف حول القيادة، فيما جاء رأي الكاتب والناشط السياسي، ذو الفقار سويرجو، ليتطابق معه.
ووفقاً لسويرجو، فإنه بعد قرار القيادة الفلسطينية تعليق العمل بالاتفاقات أصبحت كل السيناريوهات متوقعة وكل الخيارات مطروحة، المواجهة الساخنة هي الأرجح.
ويعتبر سويرجو قرار وقف التعامل بالاتفاقيات بما فيها التنسيق الأمني، بأنه متقدم والترجمة على أرض الواقع هي الفيصل، لافتاً إلى أنه سيفتح الباب على مصراعيه للوحدة الميدانية في ظل غياب الوحدة الفصائلية والبرنامج الموحد.
ويضيف قائلاً:" إذا صدقت النوايا، فإن الميدان كفيل بفرض تلك الوحدة وكنس كل المتأمريين والمتخاذلين وأزلام الاحتلال. ليفتح الباب أمام المصالحة التي نريدها نحن وليست المصالحة التي تريدها أمريكا وإسرائيل".
وبعد أن نقل تلفزيون فلسطين، خطاب الرئيس على الهواء مباشرة بساعات، طلت حركة حماس حركة حماس المتخاصمة مع حركة فتح، في بيان صحفي، علقت فيه على الخطاب، قائلة إن وقف الرئيس العمل بالاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال خطوة في الاتجاه الصحيح، وتتوازى مع متطلبات المرحلة الصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية.
لكنها لفتت إلى أن الشعب الفلسطيني يتطلع إلى إجراءات عملية حقيقية عاجلة تترجم هذه القرارات إلى أفعال، وفي إطار برنامج عملي يبدأ بإعلان فوري عن تشكيل حكومة وحدة وطنية، ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين كافة.
وأكملت في بيانها، أن ذلك أيضًا يتطلب دعوة الإطار القيادي المؤقت لتدارس سبل تنسيق العمل المشترك، وتبني استراتيجية ترتكز إلى خيار المقاومة لمواجهة "صفقة القرن" وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من ويلات، وحمايته من الإجرام الإسرائيلي المتواصل.
وإلى ذلك، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي- المقرب من حماس، شرحبيل الغريب، في منشور كتبه على فيسبوك، أن قرار الرئيس لن يتعدى "المناورة"، مذكراً أنه صدرت قرارات عن المجلسين المركزي والوطني ولم يترجم منها شيء. وأكد أن قرار وقف العمل بالاتفاقيات يتطلب الحديث عن استراتيجية فلسطينية وتحقيق المصالحة ووحدة فلسطينية حقيقية يتحمل فيها الكل الفلسطيني عبئ المرحلة وهذا غير متوفر.
الشك في تطبيق القرار بعد موت مشروع الرئيس السياسي وضياع الحلم الفلسطيني بدولة مستقلة على حدود "67، والانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن، كل ذلك جعل رئيس قسم العلوم السياسية والإعلام في جامعة الأمة، عدنان أبو عامر يتساءل:" هل إعلان السلطة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، يعني وقفاً فوريًا، أم تشكيل لجان، تتلوها لجان، لتطبيق القرار، وهل يشمل التنسيق الأمني، أم أنه خارج نطاق الاتفاقات؟، خاتمًا بوسته الذي كتبه عبر حسابه على موقعه الأزرق فيسبوك:" ننتظر ونرى".
وفي ظل اختلاف الرؤى والمواقف السياسية التي منها ما يدعم خطوة الرئيس ومنها ما يقلل من أهميتها، كتب المحلل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني علاء أبو عامر على صفحته عبر ذلك الموقع:" أحدهم حلف يمين أنه سيحلق دقنه إذا الرئيس نفذ القرارات، يبدو الدقن مقملة وبده سبب لحلقها، لأنه التنفيذ قادم باعتقادي لم يبق شيء يبكي عليه"، وفق تعبيره الخاص.
ليضيف أبو عامر في منشوره، قائلاً:" لكن أمثال حالف اليمين هؤلاء سيقولون حتى لو نفذ القرارات أن ذلك يتم باتفاق مع العدو وأن ما فوق الطاولة غير ما تحتها وأن الاسطوانة المشروخة التي نسمعها، تكررت منذ انتفاضة الأقصى وما بعدها. نحن نتعرض لمؤامرة كبرى تشارك بها أطراف عربية فاعلة وزمن التهديد واتخاذ القرارات بلا تنفيذ باعتقادي انتهت".
وكان الرئيس قد قال إن القيادة قررت وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، وتشكيل لجنة لتنفيذ ذلك، عملاً بقرار المجلس المركزي، مضيفًا:" لن نرضخ للإملاءات وفرض الأمر الواقع على الأرض بالقوة الغاشمة وتحديداً بالقدس، وكل ما تقوم به دولة الاحتلال غير شرعي وباطل". ورفض التعايش مع الاحتلال، مجددًا رفضه لصفقة الصفقة القرن، مشدداً على أن فلسطين والقدس ليستا للبيع والمقايضة".
لم تعرج إسرائيل عبر إعلامها أو مسؤوليها بدسم على خطاب الرئيس، كأنها مصدومة ومشككة فيه، أو أنها تجهز نفسها لحقبة جديدة من الصراع مع الفلسطينيين، أو ليس لديها أدنى شك بأن تقّدم القيادة الفلسطينية على مثل هذه الخطوات الجريئة أو إنها مستهترة بأي ردة فعل فلسطينية قادمة، بحكم أنها أحكمت قبضتها على الضفة الغربية وتركت غزة في همومها تتنفس وفق أهوائها ومزاجاتها. فالأيام القادمة كفيلة وكاشفة لكل السيناريوهات ومجيبة على كل التساؤلات.
المصدر : الوطنية - ليث شحادة