تبدأ اليوم ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وهي ليالي مباركة، لها خاصة دينية، لما تحتويه على ليلة القدر ، والتي فيها الدعاء لا يرد.
فيحرص الكثير من المسلمون على قيام ليل هذه الليالي العشر، وإغتنامها بالدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، والصلاة والعبادة.
وفي ظل جائحة كورونا، وإغلاق المساجد، فإن الاعتكاف بالمساجد بات ممنوعاً، وذلك كإجراء إحترازي من قبل الحكومات لمنع تفشي فايروس كورونا، الأمر الذي دفع الكثيرين للتساءل عن إمكانية جواز الاعتكاف في المنزل في ليالي العشر الأواخر من رمضان .
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، أما المقصود بالاعتكاف في اصطلاح الشرع هو: "المكث في المسجد بنية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى".
حِكمته وحُكمه
الحكمة من تشريع الاعتكاف أمور كثيرة يلخصها أنه، شـُرع للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالتفرغ لعبادته وذكره وتسبيحه واستغفاره وقراءة القرآن، وبالانقطاع عن الناس والتخفف من الشواغل لأجل ذلك التقرب تزكية للنفس وتنقية للقلب.
أما حُكم الاعتكاف فهو "سنة" بإجماع أهل العلم، ويرى بعض المذاهب الفقهية أنه "سنة مؤكدة" في العشر الأواخر من رمضان. لكن يجب الاعتكاف إذا كان منذورا.
والدليل على سنيته قول الله تعالى: "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" (سورة البقرة، الآية: 187)، وقوله: "أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"(سورة البقرة، 125).
وقد اعتكف الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في أحاديث صحيحة بعضها رواه البخاري ومسلم، ومن بعده اعتكفت زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وبعض أصحابه رضي الله عنهم.
واتفق جمهور العلماء على أن الاعتكاف يُسنّ في كل وقت في رمضان أو غيره، وأفضله في رمضان وآكده ما كان في العشر الأواخر منه. ولا حد لأقله من حيث مدته عند بعض العلماء، ويرى آخرون أن أقله يوم أو يوم وليلة (24 ساعة).
ويُستحب للمعتكف الاشتغال بما يتقرب به إلى الله تعالى كالصلاة والاستغفار والذكر وقراءة القرآن والتسبيح، وتعليم القرآن الكريم والحديث النبوي وتدريس العلم. وكذلك اجتناب ما لا يعنيه من كل قول أو فعل يشغله عن اعتكافه.
شروطه ومبطلاته
يصح الاعتكاف من كل إنسان مسلم عاقل بالغ أو مميز سواء أكان ذكرا أو أنثى، ويجب أن يكون المعتكف طاهرا من الحدث الأكبر (الجنابة)، وأن يكون الاعتكاف في مسجد تقام فيه الصلاة للآيتين المتقدمتين، وأفضله ما كان في المساجد الثلاثة المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس.
ويصح الاعتكاف من غير صوم عند أكثر العلماء لأنه مستحب عندهم لا واجب؛ والأوْلى بالمعتكف أن يصوم أو يعتكف في وقت الصيام (رمضان مثلا). ويجوز للمعتكف التنظف والتعطر والتزين في الملبس والمظهر.
ويبطل الاعتكاف بحصول أحد الأمور التالية:
1- الجماع إذا كان مرتكبه عامدا عالما ذاكرا لقول الله تعالى: "وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ" (سورة البقرة، الآية: 187).
2- الخروج من المسجد، ولا يبطله الخروج لقضاء حاجة دورة المياه، أو للوضوء والاغتسال الواجب، أو للأكل والشرب إن لم يستطع إحضاره إلا بالخروج، أو لعلاج من مرض شديد.
3- الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة عند أكثر العلماء.
هل يجوز الاعتكاف في البيت بسبب كورونا وإغلاق المساجد ؟ :-
يذكر البعض أن إجماعا على اشتراط المسجد في الاعتكاف، قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد[2]، وهذا القول غير صحيح إذ من العلماء من قال بجوازه في غير المسجد، ونقل ذلك ابن حجر فقال: واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه، وفيه قول الشافعي قديم، وفي وجه لأصحابه وللمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل.
الراجح: والراجح ما قال به الجمهور، وهو مشروطية المسجد، ودليلهم في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف:
لكنهم اختلفوا في طبيعة المسجد، هل هي المساجد الثلاثة فقط (الحرام، النبوي، الأقصى)، أم هو المسجد الجامع، أم كل مسجد تقام في جماعة، قال ابن حجر: وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه من كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحب له الشافعي في الجامع، وشرطه مالك لأن الاعتكاف عندهما ينقطع بالجمعة.
الراجح: والراجح أنه يصح في كل مسجد، ومن تجب الجمعة وسيكون في أيام اعتكافه جمعة فليبحث عن مسجد جامع.
اعتكاف المرأة في زمان (كورونا) كغيره من الأزمنة وهو جائز في بيتها:
وأما المرأة فقد أجاز بعض الفقهاء اعتكافها في مصلى بيتها، (ويقصد به المكان الذي يخصص للصلاة في البيت)، قال النووي: ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها – وهو المعتزل المهيأ للصلاة – لم يصح على الجديد، ويصح على القديم، وقال ابن عابدين: ولبث (امرأة في مسجد بيتها) وهو المعد لصلاتها الذي يندب لها.
الراجح: والراجح هو جواز اعتكاف المرأة في بيتها، لأن السنة جاءت بتفضيل صلاة المرأة في بيتها عن المسجد، حتى وإن كان المسجد النبوي أو الحرام، روى أبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا»، وإن جازت صلاتها في بيتها جاز اعتكافها كذلك.
اعتكاف الرجل في زمن (كورونا) وهل من الممكن أن يعتكف في بيته؟
الراجح من أقوال العلماء أنه يشترط المسجد في اعتكاف الرجل، لكن أزمة (كورونا) وقد منع الناس من المساجد، فهل يجوز الاعتكاف في بيوتنا الخاصة إذا استمرت الأزمة؟
لا مانع من الاعتكاف في البيت، وذلك لما يأتي:
تعذر الذهاب إلى المسجد، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويقول سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وفي الصحيح عند مسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ[8]»، وعملا بالقواعد الفقهية: (المشقة تجلب التيسير)، وأن (الأمر إذا ضاق اتسع).
إذا جاز للمرأة أن تعتكف في المسجد على اعتبار أن صلاتها في البيت أفضل، فلا مانع من اعتكاف الرجل عند الضرورة.
ما يراه المالكية، من جواز اعتكاف الرجال كذلك في البيت إذا كان نافلة، قال ابن حجر: وللمالكية -أي الاعتكاف- يجوز للرجال والنساء لأن التطوع في البيوت أفضل.
إذا جازت صلاة الجمعة في البيوت عند الضرورة (هذا قول مرجوح) وهي فريضة؛ فما المانع من الاعتكاف في البيت وهو سنة.
المصدر : الوطنية