الله الذي خلق الإنسان، أدرى بضعفه، وأدرى بعجزه، وبحاجته المستمرة إلى التذكر والتزود، ومن ثم جعل له في أيام عامه نفحات، وفي مواسم دهره وقفات، يرجع منها بزاد من التقوى متجدد، وبجذوة من الإيمان تتوقد، ومن هذه المواسم الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة.
خرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) البخاري 969.
وهذا الحديث دليل على أن العمل في هذه الأيام أحب إلى الله من العمل في غيرها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده.
وفيه دلالة أيضا على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره.
ولكن هل المراد من هذا الحديث تفضيل كل عمل صالح وقع في هذه العشر على جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته؟
الظاهر أن كل عمل يقع في هذا العشر فهو أفضل من العمل في عشرة أيام سواها من أي شهر كان. فيكون تفضيلا للعمل في كل يوم من العشر على العمل في كل يوم من أيام السنة غيره.
ويشهد لذلك ما جاء في صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، فقال رجل: يا رسول الله، هن أفضل أم عدتهن جهادا في سبيل الله؟ قال: هو أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله)) فلم يفضل العمل في العشر إلا على الجهاد في عدة أيام العشر لا مطلقا.
بين عشرٍ وعشر…
ولقد وقع الخلاف بين العلماء في المفاضلة بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان، ورأى شيخ الإسلام أن أيام العشر الأول خير من أيام عشر رمضان الأواخر، وليالي العشر الأواخر من رمضان خير من ليالي العشر الأول من ذي الحجة، ولعل مما يقوى هذا أن أفضل عشر ذي الحجة وهو يوم عرفة ينتهي بغروب الشمس، على حين أن أفضل العشر الأواخر ليلة القدر، وهي تنتهي بطلوع الشمس.
وإن كان الإمام ابن رجب ينكر هذا ويرى أن أيام العشر من ذي الحجة ولياليها أفضل من أيام العشر الأواخر ولياليها، ويحتج برواية فيها زيادة ((ولا ليالي خير من لياليهن)) ويقول رحمه الله: وحديث جابر صريح في تفضيل لياليه كتفضيل أيامه أيضا، وإذا أطلقت الأيام دخلت فيها الليالي تبعا، وكذلك الليالي تدخل أيامها تبعا. [لطائف المعارف 530،531]
ثم قال رحمه الله: والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذه العشر أفضل من مجموع عشر رمضان وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها [لطائف المعارف 532].
وقال سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن كعب قال: اختار الله الزمان وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول. [لطائف المعارف 531]
وقال إنس: كان يقال في أيام العشر بكل يوم ألف يوم ويوم عرفة عشرة آلاف، قال يعني في الفضل.
وقد روي عن ابن سيرين وقتادة أنهما كانا يقولان: صوم كل يوم من العشر يعدل سنة.
وهذه العشر من نعم الله على عباده ((فلما كان الله سبحانه وتعالى وضع في نفوس المؤمنين الشوق إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادرا على مشاهدته في كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام، قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج)) [الرياض النضرة 312]
ومن فضائل عشر ذي الحجة غير ما تقدم:
1ـ أن الله أقسم بها جملة في قوله: {والفجر وليال عشر}، وجمهور المفسرين على أن المراد عشر ذي الحجة.
2ـ أنها من جملة الأربعين التي واعدها الله لموسى عليه السلام {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة}.
3ـ أنه خاتمة أشهر الحج: شوال وذي القعدة وعشر ذي الحجة، قال الله {الحج أشهر معلومات}
4ـ أنها من الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، قال تعالى {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}، وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة.
5ـ أنّ فيها يومي عرفة والنحر وهما من أعظم أيام الإسلام، وفي الحديث ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم النفر)) [أحمد وأبو داود].
6ـ أنّ أعمال أركان الإسلام الخمسة لا تجتمع إلا فيها. قال ابن حجرٍ: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”.
ثم أنواع أخرى من العبادات يحسن الإكثار منها في هذه الأيام فمن ذلك:
1ـ ذكر الله عز وجل: في الحديث عند الإمام أحمد: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
ويستحب في هذه الأيام التكبير مطلقا ومقيدا، فيجهر الرجال بالتكبير المطلق من أول أيام ذي الحجة في الطرقات والشوارع والأسواق، وبالتكبير المقيد أدبار الصلوات من يوم عرفة لغير الحاج، ومن يوم النحر للحاج إلى آخر أيام التشريق. [انظر تفصيل حكم التكبير في الشرح الممتع 5/209-222]
وكان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك [الرياض النضرة: 311]
2_ الصيام: وقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم العشر أو أكثرها فعن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. رواه أحمد. وأخرج أبو داود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، وأول اثنين من الشهر والخميسَ.وكان عليه الصلاة والسلام يحث على صيام يوم عرفة ويقول: ((صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والتي بعده)).
3ـ قيام الليل: وهو داخل في مطلق العبادة المشروعة في هذا الزمن المبارك، وكان سعيد بن جبير إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتى ما يكاد يقدر عليه.
4ـ الأضحية: وهي ما يذبح في أيام النحر تقربا إلى الله عز وجل وسميت بذلك لأنها تذبح ضحى بعد صلاة العيد، وهي سنة مشروعة في كل ملة قال الله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وهي سنة مؤكدة ويكره للقادر أن يدعها لأن الله قرنها بالصلاة في قوله: {فصل لربك وانحر}. وذبحها أفضل من التصدق بثمنها. وقد ضحى صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين أحدهما عن أهل بيته والآخر عمن لم يضح من أمته. وللإنسان أن يضحي عمن شاء من الأحياء والأموات.
تكبيرات ذي الحجة :-
كبيرات عيد الأضحى وتكبيرات العشر الأوائل من ذي الحجة وتكبيرات العيد هي نفس التكبيرات، والتي يقوم بها المسلم قبيل أيام العيد وفي موسم الحج لتعظيم الله عز وجل على وجه العموم، وإثبات الأعظمية لله في كلمة «الله أكبر» كناية عن وحدانيته بالإلهية.
والتكبير للحَجّ يكون بقَوْل: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»، وقالوا بجواز الزيادة على الصيغة السابقة بقَوْل: «الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بُكرةً وأصيلاً، لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلّا الله، ولا نعبد إلّا إيّاه، مُخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهمّ صلِّ على سيدنا محمّدٍ، وعلى آل سيدنا محمّدٍ، وعلى أصحاب سيدنا محمّدٍ، وعلى أزواج سيدنا محمّدٍ، وعلى ذُريّة سيدنا محمّدٍ، وسلِّم تسليماً كثيراً».
ووقت التكبيرات في الحجّ: يكون التكبير في أيّام العشر من ذي الحِجّة، وأيّام التشريق في عيد الأضحى؛ استدلالاً بقَوْل الله -تعالى-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، يبدأ وقت التكبير من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة، إلى ما بعد عصر آخر يومٍ من أيّام التشريق.
نقدم لكم ملفات صوتية لأجمل أصوات تكبيرات من الحرم المكي كاملة mp3 لمدة ساعة من خلال ( الرابط التالي ) .
المصدر : الوطنية