حققت القائمة العربية المشتركة تقدّمًا كبيرًا في الانتخابات الإسرائيلية فاق التوقعات، عبر حصولها على 15 مقعدًا من أصل مجموع أعضاء الكنيست البالغ 120، أي بزيادة مقعدين عن المقاعد التي حصلت عليها في الانتخابات السابقة التي جرت في أيلول 2019، فقد صوّت لها أكثر من 577 ألف صوت، غالبيتهم الساحقة أصوات عربية، أي بزيادة حوالي 131 ألف صوت عن الانتخابات السابقة.
الوحدة هي السبب الرئيسي لهذا الإنجاز غير المسبوق، التي تعززت بعد طرح رؤية ترامب، وما تضمنته من إنكار تامٍّ للرواية والحقوق الفلسطينية، بما فيها بند يتحدث عن سلخ فلسطينيي المثلث عن مجتمعهم عبر ضمهم إلى ما يسمى "دولة فلسطينية"، وما هي في الحقيقة سوى معازل وجيوب مقطعة الأوصال تحت السيادة الإسرائيلية، ويراد لها أن تكون طاردة للفلسطينيين، بما يجعلها خطوة مؤقتة على طريق تهجير المزيد من الفلسطينيين، واستكمال إقامة "إسرائيل الكبرى" اليهودية النقية.
إن خطاب الكراهية والعداء والعنصرية الذي تتنافس عليه الأحزاب الصهيونية، بما فيها حزب "أزرق أبيض" برئاسة بيني غانتس، ساهم في توحيد العرب، وزيادة إقبالهم على التصويت، ليس حبًا بالقائمة المشتركة وما تمثله فقط، وإنما ردًا على تيار الكراهية والعنصرية الطاغي والجارف في إسرائيل، كما يظهر بموت ما تبقى من "وسط يسار"، بدليل حصول قائمة أحزاب "العمل" و"غيشر" و"ميرتس" مجتمعة على سبعة مقاعد فقط.
وعلى أهمية هذا الإنجاز الذي حققته "المشتركة" إلا أنه مهدد على خلفية عدم استناده إلى برنامج سياسي مشترك، يتجاوز عمل القائمة المشتركة في اللعبة البرلمانية، إلى الإحاطة بدور الفلسطينيين في إسرائيل، فقد فرضت رفع نسبة الحسم الوحدة على أحزاب مختلفة، وقدمت التطورات اللاحقة الأساس لبناء وحدة على أسس أمتن. كما أنه مهدد في ضوء التباين الحالي بين مكونات "المشتركة" حيال التصرف بخصوص منح التوصية لغانتس لتشكيل حكومة.
ما يدعو إلى الاطمئنان حتى الآن أن المشتركة توافقت في اجتماعها يوم الأحد الماضي – رغم تنوع الاجتهادات - على وضع شروط مسبقة لأي حوار مع غانتس أو حزبه، على رأسها أن يكون توجهه علنيًا وشفافًا، وحينها يمكن إجراء حوار حول شروط القائمة للتوصية عليه.
هناك متغيرات مهمة تظهر من خلال موافقة "أزرق أبيض" و"إسرائيل بيتنا" برئاسة أفيغدور ليبرمان على تشكيل حكومة أقلية، وتلويح قادة من "أزرق أبيض" بأن الحزب يوافق على دعم القائمة المشتركة من دون نواب حزب التجمع، في سياق المحاولة للإطاحة ببنيامين نتنياهو، عبر إقرار قانون في الكنيست يمنع شخص عليه لوائح اتهام بالفساد من تشكيل حكومة. ومع أن هذا القانون ستعارضه محكمة العدل العليا على الأرجح، لأنه مفصّل على مقاس شخص واحد، إلا أن هذا التغيّر بالتلويح بتشكيل حكومة أقلية أشعل كل الأضواء الحمر لدى اليمين المتطرف، وخصوصًا نتنياهو الذي اعتبر ذلك انقلابًا على نتائج الانتخابات، ومحاولة لسرقة رأي الناخب (ويقصد اليهودي لأنه يسقط القائمة المشتركة من المعادلة السياسية)، وهناك توتر وأجواء تذكّر بتلك التي كانت قائمة عشية اغتيال إسحاق رابين، لدرجة المطالبة بتعزيز الحراسة على غانتس ونقلها إلى مسؤولية الشاباك.
أرى أنه من الأفضل بما لا يقاس أن تتمسك القائمة المشتركة برفض التوصية لغانتس، وعلى الأرجح لن يوافق عليها هو وحزبه، ما لم يلتزم بمطالب سياسية ووطنية ومدنية مهمة وليست عينية فقط، وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: إن إسقاط نتنياهو بوصفه الأشد تطرفًا والأكثر خطرًا هدف مهم، ولكنه ليس كل شيء، ولا يجب أن يكون على حساب مستقبل الفلسطينيين كأقلية قومية، ولا على حساب وحدة ومستقبل القائمة المشتركة نفسها، وخصوصًا أن الخلاف بين نتنياهو ومعسكره وغانتس ومعسكره ليس جوهريًا، لا سيما أن الأخير وافق على قانون القومية، ورؤية ترامب، ودعا إلى استعادة الردع الإسرائيلي ضد قطاع غزة، وأنه سيعيد القطاع إلى العصر الحجري، وبالتالي التوصية له ستجعل من يقدم عليها يوفر غطاء لسياسات غانتس المعادية والعنصرية.
ثانيًا: لن يوافق غانتس على شروط القائمة المشتركة الرئيسية لدعمه، بل أقصى ما يمكن أن يوافق عليه مسائل عينية، أما غير ذلك من قضايا مهمة فلن يوافق عليها، وإذا فعل لن يستطيع الوفاء بها، لأن هناك ليبرمان الذي سيعارضها من داخل الحكومة، كما أن الأغلبية اليهودية الحاسمة في الكنيست سترفضها، وتقف ضد استجابته للمطالب العربية، إذ ستتوحد أصوات الحكومة والمعارضة ضدها.
ثالثًا: إن مناورة التلويح بتشكيل حكومة أقلية تدعمها القائمة المشتركة باستثناء نواب التجمع (ليس لأن "التجمع" يرفض فقط، بل لأن حزب "أزرق أبيض" لا يريد دعمه) ليست جادة على الأغلب، وتستهدف الضغط على الليكود لدفعه للصراع الداخلي والموافقة على حكومة وحدة وطنية، وما يعزز ذلك أن نائبين من قائمة "أزرق أبيض"، وهما يوعاز هندل وتسفي هاوزر، ومعهما نائبة ثالثة، أعلنوا أنهم لا يمكن أن يوافقوا على حكومة مدعومة من العرب، فضلًا عن أن هذه الحكومة، إذا رأت النور، لن تعمّر طويلًا سوى شهرين أو ثلاثة، وبعدها ستتوجه إسرائيل إلى حكومة وحدة أو انتخابات رابعة سيفوز فيها نتنياهو.
كما أن السكوت على لعبة التمييز بين النواب العرب، بين مقبولين ومرفوضين فخ يؤسس للشقاق بينهم، إذ يجب الحرص على موقف مشترك، يقوم على عدم تقديم شيء مجاني لا لغانتس ولا لغيره.
الأسئلة التي تطرح نفسها: هل القائمة المشتركة هدف بحد ذاتها، أم وسيلة لتحقيق أهداف، وهل التمثيل في الكنيست هو الغاية، أم المشاركة والتأثير لتحقيق الأهداف والمصالح والحقوق المدنية والوطنية للأقلية الفلسطينية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من استخلاص الدروس والعبر من تجربة قيادة منظمة التحرير التي أعطت الأولوية لتمثيلها فيما سمي "عملية السلام" على الحقوق، وكأن التمثيل بحد ذاته طريق مضمون لتحقيق الحقوق، وصولًا إلى توقيع اتفاق أوسلو الذي تضمن اعترافًا فلسطينيًا بحق إسرائيل في الوجود، وغيرها من الالتزامات (التنازلات الكبيرة) الفلسطينية، مقابل مجرد اعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير. وانتهى الأمر إلى ما نحن فيه من دون اعتراف بالمنظمة، ولا بالحقوق، ولا بوجود الشعب الفلسطيني نفسه كما يظهر في رؤية ترامب. ولعل بعض التصريحات عن العمل ضمن الشرعية الإسرائيلية، وإمكانية التوصل إلى حل وسط مع رؤية ترامب، بحيث يشكل نقطة انطلاق لإسرائيل بالمفاوضات؛ أمر يدعو إلى القلق الشديد.
وجاء ذلك في وقت مضى ولم يعد قائمًا الآن. فقد كان في إسرائيل تنافس بين يسار صهيوني يؤمن بالعملية السياسية، والأولوية عنده لنقاء الدولة اليهودية، وبين يمين صهيوني يعارض ذلك، ويعطي الأولوية لتكامل "أرض إسرائيل"، ولكن في ظل إجماع إسرائيلي على لاءات يجمع عليها الطرفان.
أما الآن، فالتنافس في إسرائيل بين اليمين المتطرف واليمين "الناعم" على قاعدة الاتفاق على التنكر التام للحقوق والرواية الفلسطينية، على أساس ضم أكبر مساحة ممكنة من الأرض، مع أقل عدد ممكن من السكان الذين يقيمون حكمًا ذاتيًا خاضعًا للسيادة الإسرائيلية، حتى لو سمي "دولة فلسطينية".
إن التوصية على غانتس من دون التزامه برفض رؤية ترامب، وتخليه عن سياسة إقصاء العرب من المعادلة السياسية الإسرائيلية، لا سيما أنه لا يعترف بهم إلا كاحتياط لدعمه عند حاجته إليهم؛ تمثل تنازلًا مجانيًا، وتحصر الدور العربي في هوامش الديمقراطية الإسرائيلية اليهودية الضيقة والمتجهة نحو التراجع في ظل إقرار قانون القومية ورؤية ترامب.
ويمكن أن تسبب هذه التوصية انشقاقًا في القائمة المشتركة، ولن تؤدي بالضرورة إلى الإطاحة بنتنياهو، بل قد تفتح – على الأرجح - الطريق لتشكيل حكومة وحدة مع نتنياهو، أو لإجراء انتخابات رابعة مرجح أن يفوز فيها اليمين المتطرف فوزًا حاسمًا.
يجب الاحتفاظ بالمشاركة الفلسطينية باللعبة البرلمانية الإسرائيلية، لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من مطالب للفلسطينيين، ولكن الاقتصار على هذه المشاركة، واعتبارها الوسيلة الرئيسية للتغيير، يقود إلى نوع من الأسرلة من خلال جعل الفلسطينيين جزءًا كاملًا من معادلة سياسية لا تريدهم، وبالتالي لا يستطيعون إحداث تغيير جوهري.
لا بد أن تهدف المشاركة في العملية الانتخابية إلى تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه، من دون التخلي عن الآفاق والأهداف الكبرى، أي أن تكون جزءًا من الممارسة السياسية متعددة الأشكال للأقلية الفلسطينية، التي تستهدف الحفاظ على حقوقها المدنية، وهويتها الوطنية، ودورها وسعيها لإحداث تغيير جوهري قادر على الاعتراف بها، عبر تحقيق المساواة الفردية والقومية.
من الصعب قبول أن تكون أو تعتبر القائمة المشتركة نفسها هي اليسار الإسرائيلي، لأنها تعمل داخل كيان استعماري ضمن نظام عنصري يوفر امتيازات عديدة لليهود، مع الانفتاح على التعاون مع اليهود المناهضين للمشروع الاستعماري الاحتلالي العنصري، ولا يمكن أن يتنازلوا عنها إلا عبر ضغط داخلي وخارجي (الخارجي أكبر)، وبالتالي لا بد من توظيف النجاح الكبير للقائمة المشتركة لتعزيز دور لجنة المتابعة العربية، والعمل لكي تصبح ممثلة لمختلف الفلسطينيين في الداخل، من يشارك في اللعبة البرلمانية ومن يقاطعها.