لم يكن مصادفة أن يبدأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس خطابه في الأمم المتحدة بذكر اتفاق أوسلو، الذي وقع عام 1993، ونص على إنجاز الحل النهائي بحلول عام 1999 وانتهى بعد أربعة وعشرين عاما إلى وضع خطير ينذر بغياب أي حل.
بل إن ما تحقق من أوسلو تشتّت على مر الأعوام وتحولت الأراضي المحتلة إلى معازل وغيتوات منفصلة ومجزأة، وارتفع عدد المستعمرين الإسرائيليين من 111 ألفا إلى ما يزيد على 750 ألف مستوطن، وبعد 24 عاما من المفاوضات الفاشلة والمراهنة على دور وسيط أميركي منحاز لإسرائيل.
جاءت الانتخابات الأميركية بالإدارة الأكثر انحيازا، وأصبح الاحتلال منظومة تجمع بين التطهير العرقي والاحتلال الكولونيالي ونظام الأبارتهايد الأسوأ في تاريخ البشرية.
وخلاصة الموقف التي لم يعد أحد قادرا على نفيها أن اتفاق أوسلو، وبغض النظر عن دوافع ونوايا من قاموا بوضعه وإقراره، قد وصل إلى ما توقعه كثيرون منا، أي إلى الفشل ونهاية تحمل أضرارا ومخاطر هائلة على الشعب الفلسطيني.
وأصبح ملزما للفلسطينيين أن يتبنوا استراتيجية وطنية بديلة لما فشل، لا بد أن يكون عنوانها تغيير ميزان القوى مع إسرائيل، بما يعنيه ذلك من تبنٍّ شامل للمقاومة الشعبية، ولحركة المقاطعة وفرض العقوبات، وبناء وحدة وطنية وقيادة وطنية موحدة، وإعادة صياغة كل السياسات الاقتصادية لتركز على دعم صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه.
وفي ظل تعاظم نفوذ الحركة الصهيونية محليا وعالميا وإقليميا، فلا بد أن تشمل الاستراتيجية الفلسطينية إعادة بناء حركة فلسطينية جامعة تعيد تجميع مكونات الشعب الفلسطيني التي تشتتت وحدة هدفها بعد اتفاق أوسلو، في مناطق 1948 وفي الأراضي المحتلة وفي كل مناطق اللجوء والمنافي.
فلا يمكن مواجهة حركة صهيونية موحدة ومنظمة بدقة، وتعمل بمثابرة على الامتداد بتحالفاتها وتأثيرها في كل العالم، إلا بتطوير حركة فلسطينية منظمة أيضا بدقة وقادرة على بناء التحالفات على جميع المستويات ومنطلقها الأول والأخير تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني وحماية قضيته من التصفية.
لكن ما يبدو منطقيا من ضرورة تبني استراتيجية وطنية جديدة بعد فشل أوسلو، لن يكون بالضرورة موقف الجميع، فهو يتطلب تقديم التضحيات والتخلي عن مكاسب ذاتية قد يرفض أصحابها التخلي عنها، ولن يمر تبني استراتيجية جديدة دون معارضة وضغوط من أطراف ودول تريد أن تشطب الموضوع الفلسطيني من كل الأجندات، أو تريد التخلص مما يسببه من أرق وقلق دام عقودا.
واستمرار النضال الوطني الفلسطيني يعني لبعض الأطراف وجود عقبة عنيدة تقف في طريق مساعيها لفرض التطبيع الكامل مع دولة الاحتلال الإسرائيلية.
ولكل ذلك فإن المؤسسة الرسمية الفلسطينية ستقف بعد خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام مفترق طرق؛ إما باختيار طريق الاستراتيجية الوطنية الجديدة وحسم أمورها بإجراءات فعلية وملموسة، أو بالاستجابة للضغوط الخارجية وتلك التي تمارسها إسرائيل، ونتيجة تلك الضغوط معروفة، ولن تكون سوى مرحلة جديدة من المفاوضات العقيمة والاتفاقات الجزئية الهزيلة، وأوهام تحسين الاقتصاد في ظل الاحتلال واستمرار الاستيطان وتكريس منظومة الأبارتهايد، وسسيتخدم كل ذلك غطاء لقلب المبادرة العربية على رأسها وفرض التطبيع الإقليمي الشامل مع إسرائيل، وإلحاق المزيد من الضعف بالقضية الفلسطينية تمهيدا لتصفيتها.
ولا أظن أن ما يسمى "صفقة القرن" ستشمل قيام دولة فلسطينية مستقلة حقا وعاصمتها القدس إن كان مهندسوها يرفضون ذكر كلمة "حل الدولتين"، ويتقاعسون عن معارضة الاستيطان الإسرائيلي ولا يتورع بعضهم عن وصف الاحتلال "بالمزعوم".
في معركة القدس الأخيرة، اختار الشعب الفلسطيني وأهل القدس البواسل طريق الاستراتجية الجديدة البديلة، وحققوا نصرا لم يتخيل كثيرون إمكانية تحقيقه، ونشطاء المقاومة الشعبية وحركة المقاطعة اختاروا الاستراتجية الجديدة، وأبناء الشعب الفلسطيني وبناته المنهمكون في بناء حركة التضامن مع فلسطين اختاروا هذه الاستراتيجية.
فهل نرى في الأيام القادمة حسما للخيارات في اتجاه جعل هذه الاستراتيجية إطارا جامعا لكل مكونات الشعب الفلسطيني بما في ذلك تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية؟ وهل ستترجم المقدمات الصحيحة في نقد ووصف الوضع القائم إلى استنتاجات صحيحة ونهج جديد؟
هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.