منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، دخلت دول الخليج في صراع بدا مفاجئاً، ويبدو أنه ينتهي بنفس المفاجأة، لا أحد يعرف حتى الآن الأسباب الطارئة لذلك الحدث الدراماتيكي، عندما أعلنت بعض الدول التي تقف في مقدمتها السعودية، ومعها الإمارات والبحرين، قطع العلاقات مع قطر التي كانت شريكة حتى الأمس معها في الملف السوري ودعم وتشكيل معظم الجماعات المسلحة، وكذلك في الحرب اليمنية ولا أحد يعرف أيضاً أسباب نهاية الأزمة.
لكن الواضح أن في النهاية ما يحمل بصمة أميركية واضحة ممهورة بتوقيع جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يستعد لإخلاء البيت الأبيض، ولا يمكن لأي مراقب أن يستبعد نفس البصمة في الوقيعة بين تلك الدول، فمن صنع الأزمة هو القادر على حلها، وهكذا كان لأن الأزمة بدأت بعد أربعة شهور فقط من تولي الرئيس ترامب الرئاسة، ولأن المستفيد الوحيد من ذلك الخلاف كان الإدارة الأميركية.
في اليوم الأول للأزمة، بدأ ترامب كأنه يقف إلى جانب السعودية وحلفائها طالباً من قطر وقف دعم الإرهاب هكذا بالنص، وبعد ذلك كان يتحدث عن الشراكة مع قطر في إشارة إلى الخصوم بأن عليهم بذل المزيد ودفع المزيد لضمان استمالة حقيقية، وهكذا دوماً يفعل التاجر الكبير الذي جاء إلى السياسة من عالم التجارة والسمسرة والمضاربات، وقبيل مغادرته يبدو أنه ينهي هذه الأزمة حتى لا يستفيد منها ساكن البيت الأبيض الجديد الذي يفكر بمنافسته بعد أربع سنوات كما فعل.
عشرة شروط كانت السعودية نقلتها عبر الوساطة الكويتية الأولى التي تحركت بعد شهر من الأزمة لإعادة العلاقات مع الدوحة، بدأت بقطع العلاقات فوراً مع إيران، ووقف بث قناة الجزيرة فورا، والاعتذار لدول الخليج، وانتهت بوقف دعم «الإخوان المسلمين» والتنظيمات الإرهابية. وأغلب الظن أن هذه الشروط غابت فجأة من جدول المصالحة القائمة ولم تستجب لها قطر، ما يعني أن الصعود على الشجرة لم يكن يتناسب مع الهبوط المفاجئ، وأغلب الظن لأن هناك طرفاً ثالثاً أوهم أحد الأطراف بكسب المعركة ثم انتقل للحياد الانتهازي والابتزازي.
من الواضح أن النهاية تشير إلى تنازل من قبل التحالف الذي تقوده الرياض لصالح الدوحة. صحيح أن المعلومات، حتى كتابة هذا المقال، شحيحة إلا من إعلانات مقتضبة، ولكن ليس هناك مؤشرات على إغلاق «الجزيرة» أو غيرها من الشروط، فالظروف التي كانت قائمة في أيار 2017 ليست هي الظروف التي تسمح بالتمترس عندما كان الرئيس ترامب يبدو أنه يقف إلى جانب الرياض وشركائها ويعتبرها شريكاً في مكافحة الإرهاب، فقد كان لمجيء بايدن ما يخل بطبيعة التوازنات بين دول الخليج.
كان واضحاً أن السعودية تريد فوز ترامب، فيما كانت قطر تنتظر فوز بايدن. وكان التعبير الأكثر سخرية عن ذلك ما تداوله نشطاء السوشيال ميديا أثناء الفرز قبل أن تتضح النتيجة «بأن ترامب يفوز في قناة العربية، بينما بايدن يفوز في قناة الجزيرة»، وبالنهاية فاز بايدن وباعتباره إلى حد كبير استمراراً لإدارة الديمقراطيَّين باراك أوباما وهيلاري كلينتون اللذين كانا أقرب للدوحة من ترامب، بل إن هناك من الجماعات المؤيدة للدوحة ومنها جماعة الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة نشطت في الانتخابات الأميركية لصالح بايدن ولإسقاط ترامب.
هذا ربما شكل ضغطاً على السعودية للتنازل عن شروطها في ظل هذا المتغير الكبير، والأهم من ذلك مقتل الصحافي جمال خاشقجي والتي تتهم إدارة بايدن وبالتحديد توني بلنكن وزير خارجيتها القادم ولي العهد السعودي بها، وبات واضحاً أن تلك القضية كانت ورقة بيد قطر تلقفتها قناة الجزيرة كهدية، وربما خشيت السعودية أن تلعب قطر دوراً أكبر بالتحريض في هذا الملف مع الإدارة الجديدة.
المراقب للحالة العربية وصراعاتها يمكن أن يلمس ببساطة سذاجتها حتى في إدارة معاركها، ويصاب بقدر من الحزن والشفقة على المستوى بعد كل هذه التجربة وما تملكه الدول من إمكانيات تسخّر أو تتبخر بلا جدوى، لكنها تشير إلى ثابت واحد وهو أن العرب ما زالوا فقراء في ممارسة السياسة...!!!!