لم يشهد التاريخ العربي الحديث الكثير من الانتصارات منذ أن أقيمت إسرائيل في صراعه معها هذا وإن لم تنعدم أصلا، فخلال العقود السبعة الماضية خاضت إسرائيل ثمانية حروب مع العرب لم تسجل في أي منها هزيمة واضحة لإسرائيل أرغمتها على الاستجابة للشروط السياسية، وفقط في حربي أكتوبر 73 وتموز 2006 على لبنان تمكن العرب فقط من صد القوات الإسرائيلية وليس هزيمتها.
في قدرة هذه الدولة الصغيرة التي لم يتوقف تاريخها عن الحروب، قدرتها على خوض هذه المعارك، ما يدعو للتساؤل عن الحالة العربية التي لم تغادرها الهزائم كيف تخوض حروبها وما الذي ينقصها؟.. أظن في الإجابة ما ينبغي بحثه بشكل أوسع من القدرات العسكرية التي دوما ما كانت تفوق التكنولوجيا الخاصة بالأسلحة كفاءة الجندي العربي، وهنا الأمر يتعلق بالتعليم ومستوى الجندي العربي كإبن لهذه البيئة، ويذهب السؤال نحو الصحة والاقتصاد والخدمات وكل شيء وليست الهزائم العربية سوى انعكاس لهزائم الداخل التي تظهر فيها الدول العربية أشبه بالدول القديمة والمواطن العربي متأخرا عن كل مواطني العالم.
قرأنا الكثير عن حرب حزيران وكيف بدأت وأحداثها وتفاصيل حررتها الوثائق وشهود العيان الذين انتظروا طويلا ليقدموا شهاداتهم على عصر بعضهم كان جزءًا من صناعة أحداثه، على طرفي حدود النار، وصحافيين قدموا شهادات أكثر حيادا، جميعها أدانت إدارة العرب لأنفسهم وصولاتهم ودولهم وجيوشهم ومعاركهم وقدرتهم على مراجعة التجربة والاستفادة منها وخصوصا الهزائم.
الأهم أن حرب حزيران التي سميت تبسيطا بالنكسة وإن كانت أشد وطأة من النكبة التي سبقتها بعقدين حين ضاع الجزء الأكبر من فلسطين وظل العرب والفلسطينيون ينتظرون استردادها، لكن حرب حزيران أضاعت هذا الأمل، بل أن إسرائيل كانت قد سجلت انتصارات ساحقة على الدول العربية.
يمكن أن نعتبر أن حرب حزيران 67 قد سجلت الولادة الحقيقية لدولة إسرائيل، فمنذ أن أقامها بن غوريون وجه الدعوة ليهود العالم لحزم أمتعتهم والهجرة إلى إسرائيل، لكن يهود الشتات لم يأخذوا تلك الدولة الصغيرة الناشئة على محمل الجد أو يصدقوا قدرتها على البقاء والاستمرار وسط هذا المحيط العربي المعادي، وحتى 67 لم يكن أقل من 20% من اليهود قد هاجروا الى اسرائيل، لكن واحدا من أكبر آثار الحرب هو قدرة إسرائيل بما حققته من انتصار على اقناع يهود العالم بأن هذه الدولة باقية، لذا بالعودة لميزان الهجرة الذي سجلته السجلات الإسرائيلية يظهر الصعود المفاجئ لخط الهجرة بشكل هائل بعيد عام 67.
وفيما كانت إسرائيل تؤسس عقيدتها الأمنية منذ الولادة وتخطط لكل شيء، وهو ما احتوته مجموعة الوثائق الإسرائيلية التي أفرج عنها نهاية تسعينات القرن الماضي، أي بعد خمسة عقود على التأسيس، كانت وثيقة هامة تضمنت محضر اجتماع الحادي والثلاثين من مايو 49 برئاسة رئيس الحكومة بن غوريون، يضع فيه تلك العقيدة التي احتوت على بند يقول “على إسرائيل أن تشكل جيشا أقوى من جيوش الدول العربية مجتمعة، لذا كانت تؤسس جيشا قويا بدءًا من كفاءة العنصر البشري وصولا للمفاعل النووي الذي كان قد أنتج القنبلة مع بدايات الستينات ليشكل حصانة إسرائيل الكبرى، والذي فكرت باستخدامه للحسم كما نقلت وثائق حرب أكتوبر 73 عن غولدا مائير، عندما تعرضت القوات الإسرائيلية للضغط أمرت بتجهيز القنبلة لولا ان هناك ما يعرف بجاهزية البرغي التي تحتاج إلى 72 ساعة، وهي العملية التي تعرف بجاهزية القنبلة للاستخدام، ولكن تحتاج من أجل التجميع 72 ساعة وخلال تلك الفترة كانت أخبار جديدة تأتي لرئيسة حكومة إسرائيل لتأمر بالتراجع.
لم يتم التأكد من مدى حقيقة ذلك، وقد يكون استخدم لتأكيد وتعزيز الردع وتخويف الطرف العربي، لكن بالإجمالي لا يمكن نفي جدية إسرائيل وحرصها في بناء جيشها الذي اعتبر العمود الفقري والضمانة الأكبر لاستمرار الدولة، وقد نجح لكن ماذا عن الجيوش العربية آنذاك وحاليا؟ هو سؤال الواقع الصعب والذي استدرج فيه العرب إلى عكس ما أرادوا تماما عندما جرتهم قوة الخصم مرغمين إلى التسليم بواقعه.
بين حزيران بجيوش مترهلة ومكشوفة وغير مؤهلة للحروب الحديثة تؤهلها لحماية أوطانها وأراضيها قبل أكثر من خمسة عقود، وجيوش أكثر انكشافا الاّن جرت في نهر السياسة الدولية مياه كثيرة، فمن لاءات الخرطوم وسط مناخات الهزيمة الى السباق نحو اسرائيل.. كل ذلك خلال نصف قرن هو زمن طويل في عمر السياسة تنتقل فيه اسرائيل الى الهدف الثالث الذي وضعه الأب الروحي ثيودور هرتسل في تسعينات القرن قبل الماضي وهو يرسم “كروكي” اسرائيل على الورق واضعا أمام التاريخ اليهودي ثلاث مهمات وأهداف.
كتب هرتسل أنه يجب نقل اليهود أولا الى فلسطين لتحويلهم الى منتجين بدل اقتصاد الصفقات الهوائية الذي يتكسبون منه، ويقصد عمل السمسرة الذي يعملون به في أوروبا، والثاني اقامة الدولة في فلسطين، أما الثالث والنهائي فهو تطبيع وجود هذه الدولة أي جعل وجودها طبيعيا في المنطقة.. مع ذكرى الهزيمة يبدو أننا على أبواب المرحلة الثالثة والذي لخصه وزير خارجية دولة خليجية بالقول: إن اسرائيل ليست عدوا بل ايران هي العدو..!