يحاول، وبقوة، مروجي "التطبيع" في هذه الأيام تسويق بضاعتهم الكاسدة، بربطها بعدد من الاستخلاصات، وترويج هذه الاستخلاصات على انها حقائق دامغة لا مجال للتشكيك فيها، بل يجب الأخذ بها والبناء عليها. ولكن من يتفحص هذه الاستخلاصات، حتى لو لم يكن خبيراً استراتيجيا أو عالماً بالتاريخ، يكتشف أننا أمام أوهام، تخلقت في عقل الطبقة العربية الحاكمة، نتيجة زواج آثم بين الخوف على السلطة والجهل بسنن التاريخ، يحاولون بيعها لنا على أنها نتائج نهائية لمرحلة تاريخية، انتهت بهزيمة العرب والمسلمين هزيمة ساحقة، وانتصار العدو الصهيوني نصرا لا مراء ولا مشاحة فيه، وعليه فإنها فرصتنا الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من ركامنا فعلينا ان نركب قطار "التطبيع"، ليحملنا الى بر الازدهار والرفاهية والسلام حسب الرؤية التي روجها جاريد كوشنير، كبير مستشاري وصهر الرئيس المغادر، غير مأسوفاً عليه، دونالد ترامب. بمعنى آخر إنّ ما نراه اليوم هو "نهاية التاريخ" العربي، وعلينا أن نضع أيدينا في أيدي "المنتصرين" في هذه الجولة الحضارية، حتى نحجز لنا مقعدا مريحاً في المستقبل الذي سترسمه الأيدي الصهيونية للمنطقة.
يمكن للمتأمل في الحجج "الأوهام" التي يسوقها المطبعون أن يرصد الحجج التالية:
اولاً: ينطلق المطبعون من الوهم بأن دولة الكيان حقيقة قائمة ومستمرة في المستقبل وزوالها مستحيل. هذه الحجة "الوهم" تتصدع بمجرد أن تضعها في ميزان التاريخ القريب والبعيد، زمانا وجغرافيا. فالقارئ لتاريخ الاستعمار والمستعمرين على مدار التاريخ يعلم يقينا أنه في وجود شعوب حية، تقاوم وجود الأغراب، يدرك بما لا يترك مجالا للشك، أنه لا بقاء لمستعمر مهما طال الزمن، طالما تقاومه شعوب تحلم بالحرية والكرامة، ولعل نصيب شعبنا الفلسطيني من ذلك أعظمه، فعلى مدار قرن من الزمان لم يبخل شعبنا بغالي أو رخيص في سبيل حريته وكرامته واستقلاله، وهنا لا مجال للحديث بالتفاصيل عن تجربة الهند وفيتنام والجزائر وجنوب أفريقيا وغيرها كثير، كشاهد من التاريخ المعاصر على أنه لا توجد قوة على الأرض يمكن أن تكبل شعبان يحلم بالحرية ويتطلع للاستقلال.
أما المستقبل فحدث ولا حرج، ونبدأه من دولة الكيان نفسه، فالمتتبع لإخباره لن يغيب عنه، أن قادة الكيان أنفسهم يشكون في قدرته على البقاء والاستمرار. فهذا نتنياهو في الاحتفال بالذكرى السبعين لقيام الكيان يعلن عن اقصى امنياته بان يحتفل الكيان بذكرى تأسيسه المائة. ان الراصد لحركة الهجرة من والى الكيان سيرصد ازديادا ملحوظا في الهروب من الكيان الى الخارج، بمجرد ان يحدث تصعيدا كبيرا، مصداقا لقول أحد الصحفيين الصهاينة متهكماً، حيث أكد ان معظم "الاسرائيليين" يؤمنون بحل الدولتين، ولكنّه لا يعني الحل المتعارف عليه للصراع بين الطرفين، وإنما يعني الحصول على جوازي سفر، أحدهما "الاسرائيلي" والثاني لدولة أخرى يهربون اليها إذا ضاقت بهم الامور في الكيان. من يستحق البقاء إذاً؟ شعبٌ يبذل الغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن ارضه ومقدساته، ام شعب يبحث عن فرصة للهروب؟ ليس بعيدا عن ذلك الكثير من الدراسات وبعضها يتبع جهاز المخابرات الامريكية CIA والتي تتساءل عن امكانية وجود الكيان خلال العقود القادمة، وبعضها أكثر تحديدا حيث يحدد سنوات مثل ٢٠٣٠ و٢٠٥٠. في هذا السياق لابد أن نذكر بأن نشأة هذا الكيان جاءت، بشكل أساس، نتيجة تقاطع مصالح الدول الكبرى في حينه، وأن اعتماد الكيان دولة عضوا في الامم المتحدة لا يزال، حتى اللحظة، اعتمادا مشروطًا بقيام دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين الى ديارهم. تنفيذ ذلك يعني انتهاء الكيان موضوعيا، وعدم تنفيذه يعني بقاء علامة استفهام كبيرة حول بقائه، مما يبقيه في حالة بحث دائم عن الشرعية والشعور العميق بالتهديد الوجودي.
ثانياً: يحاول المطبعون تسويق التحالف مع الكيان لصد هجوم "الغزاة" على المنطقة. عند تفحص هذا الادعاء، نكتشف أن المقصود بالغزاة هم الفرس والاتراك. هذه المحاولة البائسة للي أعناق التاريخ والجغرافيا لن تنطلي على طفل صغير سمع في مدرسته عن تاريخ المنطقة. فإيران وتركيا دول اصيلة في المنطقة، جزء من تاريخها وحاضرها ومستقبلها، شاركت، وبقوة، في صناعة حضارتها ورسم معالمها لقرون. هذه الحقيقة الثابتة كالشمس، لن يغيرها حراكات بعض الصغار هنا او هناك، حتى لو اتفقنا او اختلفنا مع سياسات هذه الدول، فان ما يجمعنا بها أكثر بكثير مما يفرقنا. من ناحية أخرى كيف سنستعين بكيان طارئ، حتى لو امتلك كثير من مقومات القوة، وتاريخه كله يشي بدوره في زرع الفتن والشحناء بين الفرقاء، ليستمر في تسيده للمشهد. الم يساهم الكيان بشكل كبير في تعزيز انقسام السودان؟ الم تسرب التقارير الصحفية عن دور الكيان في بناء سد النهضة؟ من الذي ضغط على الادارات الامريكية لتدمير العراق؟ من الذي استهدف الأبرياء في حمام الشط في تونس؟ من الذي خطط ونفذ اغتيال الشهيد محمود المبحوح رحمه الله في دبي، ضاربا بعرض الحائط مصالح الدول وأمنها واستقرارها؟ إن أمننا القومي يرتكز بشكلٍ اساس على نبذ الخلافات البينية والصراعات العبثية، والبحث عن المصالح المشتركة القائمة على الجوار الحسن، والاحترام المتبادل.
ثالثاً: الوهم الثالث الذي يؤمن به هؤلاء المطبعون، هو المصالح الوطنية للدول الموقعة، بعيدا عن التزاماتها القومية والاسلامية تجاه القضية المركزية للأمة، قضية فلسطين. ولعل هذا الوهم هو الاقوى لتسويق "التطبيع" لدى مواطني الدول المطبعة، ولكنه أقلها قدرة على الصمود في وجه الحقائق الساطعة لتاريخ هذا الكيان مع كل الدول التي عقد معها الكيان اتفاقيات "سلام"، ابتداء بمصر، مرورا بالأردن وانتهاء بالسلطة الوطنية الفلسطينية. فقد اثبتت عقود من العلاقات "السلمية" أنها فقط في اتجاه واحد وهو مصالح الاحتلال وتعزيز سيطرته وتفرده في المنطقة، وأنه عدا الانجازات السياسية والأمنية التي حققها الكيان لصالحه، لم تحدث الطفرة الاقتصادية التي روجتها الاتفاقيات بين هذه الدول والكيان. إن الكيان سيكون، بما يملك من امكانيات تقنية وشبكة علاقات اقليمية ودولية، هو صاحب اليد العليا في أي علاقة، وسيستثمرها حتى النهاية لصالحه. الكيان عينه على الممرات الاستراتيجية والثروات الهائلة الطبيعية التي تسيطر عليها هذه الدول، كما انه يتطلع للتخلص من حالة العزلة والحصار التي كلفته كثيرا على مدار العقود الماضية، سواء كان على المستوى الشرعية والوجود والقدرة على التمدد أو المستوى الاقتصادي والأمني والعسكري.
من ناحية ثانية يدعي المطبعون ان اتفاقية السلام ستلقي عن كاهلهم عبء كبير متمثل في الموازنات الهائلة التي تستقطع لإعداد الجيوش لمواجهة العدو والدفاع عن فلسطين والقضية الفلسطينية. بداية كم حرب حقيقية خاضها الحكام العرب من أجل فلسطين؟ وخاصة الدولة المطبّعة مؤخراً؟ وما هي الانجازات التي حققوها؟ ثم إن المليارات التي أنفقت على شراء الاسلحة، لم تكن يوماً الا لقهر الشعوب او تهديد الجيران من العرب والمسلمين.
رابعاً: يدعي المطبعون، في إطار تبرير خطيئتهم، أنهم يفعلون ذلك في إطار دعمهم للقضية الفلسطينية ودعمهم الثابت للحق الفلسطيني. بداية الفلسطينيون ليسوا قصّرا حتى يتصرف أحدٌ بالنيابة عنهم، وكيف يصلح هذا الادعاء مع حقيقة أنه لم يتم التشاور مع أي طرف فلسطيني، وأنّ الفلسطينيين بالإجماع استنكروا هذه المعاهدات واعتبروها خيانة لقضيتهم. ثم كيف نفهم المنطق الذي يجمع بين دعم القضية الفلسطينية والحقوق الاصيلة لشعبها، ثم سلوكيات وإجراءات وسياسات تقوض الأسس التي يستند اليها النضال الفلسطيني مع الاحتلال. فأين دعم القضية الفلسطينية في دعم المستوطنين والمستوطنات في أراضينا المحتلة عام ٦٧، وتوقيع الاتفاقيات التجارية معهم واستيراد بضائعهم من أراضينا المسروقة، فمؤخراً، على سبيل المقال، أطلقت دبي وأبو ظبي مشروعات مشتركة مع عتاة الصهاينة، لمضاعفة عدد المستوطنين في الضفة المحتلة ليصل الى مليون مستوطن، من خلال مشاريع ستنفذها شركتا طورا ودفاش فراديس الصهيونيتين بدعم إماراتي. أين الدعم للفلسطينيين وصمودهم في المساهمة وبشكل مباشر في تهويد القدس وترحيل سكانها العرب، من خلال شركات اماراتية وسيطة لشراء منازل الفلسطينيين وبيعها لليهود؟ هل دعم الفلسطينيين يتحقق بدعم نادي "بيتار" الصهيوني المتطرف، والذي شعاره الرئيس "الموت للعرب"؟ هل دعم الفلسطينيين يتحقق من خلال تبني مشروعات تهدف لشطب حقوق اللاجئين الفلسطينيين، بالعمل على تقويض وكالة الغوث "الأونروا"، حيث تبنت الامارات دراسة صهيونية أصدرها معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني، أهم المراكز المقربة من صانعي القرار في الكيان، ويقدم فيه رؤية مفصلة لإنهاء عمل وكالة الغوث "الأونروا"، على طريق شطب ملف اللاجئين، جوهر الصراع مع الاحتلال، أم الدعم يتحقق بتبني مشروعات تكنولوجية لدعم المنظومة الأمنية الصهيونية وقدراتها على السيطرة على الشعب الفلسطيني.
لن يطول الزمن كثيرا حتى نسمع عن الادوار التخريبية للصهاينة في البلاد العربية ويكتشف مواطنو الدول المطبعة أن حكامهم سوقوا عليهم الأوهام، مقابل تثبيت حكمهم وتعظيم سلطاتهم وثرواتهم، أنهم فتحوا ابواب دولهم على مصراعيها للعابثين والمارقين ليعيثوا فيها فسادا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وأخلاقياً، ولعل ما سمعناه في بعض التقارير عن السرقات في الفنادق مؤشر بسيط على ما هو قادم. لعله من المفيد هنا التذكير بأقوال أحد أهم مؤسسي هذا الكيان، ديفيد بن غوريون، ففي 24 تموز (يوليو) 1948، بعد شهرين على قيام الكيان، قال رئيس الحكومة الصهيونية أشياء قاسية جدا عن المجتمع الصهيوني الجديد، معلقاً على النهب والسطو على منازل الفلسطينيين، بعد طردهم منها بالقوة، من قبل العصابات الصهيونية في حينه “تبين أن معظم اليهود لصوص… أنا اقول ذلك بصورة متعمدة وبساطة. لأنه للأسف هذه هي الحقيقة”. هذه الاقوال مكتوبة، حرفيا، في محضر جلسة لمركز مباي، المحفوظ في متحف حزب العمل الصهيوني.
بالفلسطيني نقول في المثل الشعبي "اللي بيجرب المجرب عقله مخرب" مع التحية.