القضية ليست قضية تغيير كراسي بل هي قضية تغيير استراتيجيات واعتماد سياسات جديدة وبديلة
لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع رئيس الوزراء السابق في السلطة الفلسطينية سلام فياض، أثار سيلاً من التعليقات والتكهنات والاحتمالات، بما فيها عودة فياض إلى رئاسة الحكومة خلفاً للدكتور رامي الحمدالله, ومن المعلوم أن فياض تولى، بداية، وزارة المال في زمن الرئيس الراحل ياسر عرفات، بناء لطلب مباشر من الإتحاد الأوروبي، والدول المانحة في مقدمها الولايات المتحدة، وصندوق النقد الدولي، الذي كان فياض واحداً من أركانه، وترك وظيفته فيه لصالح تولي وزارة المال في السلطة الفلسطينية. تمحورت مهمته الرئيسية في تقليص الصلاحيات المالية للرئيس عرفات، وإعادة هيكلة وزارة المال وتحديثها، بحيث تتعزز رقابة الجهات المانحة على اتجاهات الصرف وآلياته في السلطة الفلسطينية، بعدما كان الرئيس عرفات مطلق الصلاحيات في هذا الشأن الحساس في إدارة الشأن العام وبناء الكيانية السياسية الفلسطينية تحت سقف إتفاق أوسلو وقيوده والتزاماته.
ومع فياض ارتفعت ميزانية السلطة، في ظل تدفق المزيد من مال المانحين عليها، وأشاد صندوق النقد الدولي أكثر من مرة بإدارة وزير المال لوزارته، واستجابتها للشروط الخارجية. ثم قفز فياض إلى رئاسة الحكومة في زمن الرئيس عباس، تحديداً بعد انقلاب حركة حماس في 14/6/2007 كما كان نجح في الفوز بمقعد في المجلس التشريعي في انتخابات مطلع العام 2006.
لم يكن فياض رئيس حكومة عادياً، بل، والحق يقال، كان صاحب رؤية، وإن كانت هذه الرؤية قد بنيت تحت سقف أوسلو، ولم تتجاوزه، وبالتالي لم تشكل موضع اجماع وطني لدى القوى الفلسطينية في م.ت.ف. فقد طرح فياض مشروعه «لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية تحت الإحتلال»، مستنداً في ذلك إلى ما أسماه «تطوير عمل المؤسسة الرسمية»، و«بناء الإقتصاد الوطني عبر تشجيع القطاع الخاص» وأخيراً، وليس آخراً، حل قضايا الحل الدائم مع الإحتلال بالمفاوضات، يخوضها الرئيس عباس وتكون «النتيجة الحتمية» للمفاوضات قيام الدولة الفلسطينية الجاهزة بناها ومؤسساتها، والفوز بالإستقلال ورحيل الإحتلال، وحل قضايا الإستيطان.
على مدى سبع سنوات قاد فياض مشروعه، الذي وصل معه إلى الطريق المسدود. فقيود أوسلو وضعت أساساً في خدمة سلطة الإحتلال، ولمنع مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني من تحقيق أهدافها.
فإذا كانت المؤسسات قد شيدت كأبنية شاهقة، وبأثاث فاخر يستجيب للنزعة الاستهلاكية للسلطة البيروقراطية، فإن الأبنية والأثاث الفاخر لا يحققان الإستقلال، ولا ينهيان الإحتلال، بقدر ما يوفران إحساساً مزيفاً بوجود «دولة»، هي في الواقع لم تتجاوز حدودها وصلاحياتها. مجرد إدارة ذاتية على السكان، (ليس بشكل مطلق) مع بقاء سجل السكان مع سلطات الإحتلال، وليس مع حكومة السلطة.
أما بشأن بناء الإقتصاد الفلسطيني، على طريق التحرر من قيود بروتوكول باريس، فقد أثبتت التجربة، ولا زالت، أن الطريق إلى بناء الإقتصاد الوطني هو في التحرر من التبعية للإقتصاد الإسرائيلي، أي الخروج من بطن الإقتصاد الإسرائيلي الذي ابتلع كل فروع الإقتصاد الفلسطيني وحوله إلى جزء لا يتجزأ من إقتصاد إسرائيل، في مقدمة ذلك اعتماد الشيكل الإسرائيلي عملة التداول، والدخول في الغلاف الجمركي الإسرائيلي. وقد ثبتت النظرية القائلة بأن شرط قيام إقتصاد وطني هو الخروج من الغلاف الجمركي الإسرائيلي، وبناء القطاع العام في مجالات عدة، كالبنية التحتية والخدمات الأساسية، مما يشجع القطاع الخاص على «المغامرة» بأمواله في بناء الإقتصاد الوطني. ما عدا ذلك فإن القطاع الخاص لا يملك الشجاعة في المساهمة في الإقتصاد الوطني، بينما القرار السيادي المالي والضريبي وقرار السماح بالاستيراد والتصدير هو بيد سلطات الإحتلال، وما دامت العملة المتداولة هي عملة الإحتلال، وحده يتحكم بأسعارها، ومادام القطاع المصرفي خاضعاً لسلطة المال الإسرائيلية، لا يجرؤ على مخالفة تعليماتها.
أما المفاوضات، فقد أثبتت التجربة المرة، أنها عملية عقيمة، وعبثية، ولا تشكل معبراً نحو الفوز بالإستقلال.
خطيئة فياض، أنه حاول أن يرسم طريقاً للإستقلال، دون أن يرسم في الوقت نفسه استراتيجية للخروج من أوسلو. ففشل.
لم يكن ليجري الحديث عن احتمال تولي فياض رئاسة الحكومة مرة جديدة، لو لم تكن الأجواء السياسية عابقة بالحديث عن إحتمال رحيل حكومة الحمدالله. ولم يعد سراً الحديث عن أن عدداً من أعضاء «مركزية» فتح لا يتوقفون عن المطالبة برحيل حكومة الحمدالله وتشكيل حكومة جديدة، ويتهمونه في الوقت نفسه بالفشل، وضعف المبادرة، ويحملونه مسؤولية تقليص صلاحية السلطة الفلسطينية لصالح توسيع صلاحية الإدارة المدنية للإحتلال. ولعل اعتراض عدد من أعضاء قيادة فتح، على تسمية الحمدالله عضواً في اللجنة التنفيذية الجديدة في المجلس الوطني الأخير، وتسوية الأمر بتسميته عضواً في المجلس المركزي، يشكل مؤشراً واضح الملامح على أن فتح لم تعد موحدة حول الحمدالله، وعلى أن هناك من يدعو علناً إلى رحيل حكومته ورحيله هو أيضاً، وتشكيل حكومة جديدة «قوية» تتوفر فيها الكفاءة لمواجهة استحقاقات «صفقة القرن» وتحدياتها، واستحقاقات المرحلة القادمة، بما فيها إعادة ترتيب البيت الداخلي، فضلاً عن أن استبعاد الحمدالله يستبعده من لائحة الأسماء المرشحة لخلافة الرئيس عباس إذا ما اضطر لمغادرة المسرح السياسي.
ومما لا شك فيه أن المؤسسة الوطنية (المجلس المركزي والمجلس الوطني) تجاوزت في رؤيتها «رؤية» فياض للفوز بالإستقلال، كما تجاوزت أداء حكومة الحمدالله والتزاماتها، حين تبنى المجلس المركزي في 5/3/2015 إسترتيجية فك الإرتباط بإتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس، لصالح برنامج المقاومة في الميدان وفي المحافل الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية. وهي الإستراتيجية التي أعيد التأكيد عليها في دورة المجلس المركزي (أيضاً) في 15/1/2018 وأعيد التأكيد عليها مجدداً في المجلس الوطني في 30/4/2018.
وهي الإستراتيجية الوطنية التي مازال الرئيس عباس يتجاوزها ويتجاهلها في أداء «مطبخه السياسي» متمسكاً برؤيته في 20 /2/2018، التمسك ببقايا أوسلو، ومفاوضات الحل الدائم، بديلاً لإستراتيجية الخروج من أوسلو والتزاماته.
وبالتالي لا تكمن المشكلة ولا حلها في رحيل الحمدالله، أو في حلول سلام فياض بدلاً منه. فالقضية ليست قضية أفراد (مع التقدير لكفاءة الأفراد وضرورتها) بل تكمن القضية في «أية إستراتيجية سياسية نعتمد». هل إستراتيجية 20/2/2018 [خطاب الرئيس عباس في مجلس الأمن الدولي] والرهان على بقايا أوسلو، أم إستراتيجية الخروج من أوسلو، نحو إنهاء الإنقسام، واستعادة الوحدة الداخلية، وفك الإرتباط بإتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس، والتزاماتها، وإعادة الإعتبار لمؤسسات م.ت.ف، وتعزيز الدور التمثيلي للمنظمة، وإعتماد برنامج المقاومة في الميدان، وفي المحافل الدولية، وتهيئة الأوضاع لإعادة بناء المؤسسات بالإنتخابات الشاملة، الرئاسية، والتشريعية، على الخطين، المجلس التشريعي، والمجلس الوطني وفق نظام التمثيل النسبي الكامل، وتوفير واستنهاض عناصر القوة، وهي عديدة، لمواجهة استحقاقات وتحديات «صفقة القرن»، وسياسات نتنياهو الإستعمارية الإستيطانية.
القضية ليست لعبة تغيير كراسي