كأن النظام السياسي الفلسطيني الذي تعرض للانقسام بعيد الانتخابات الفلسطينية (2006)، والذي نجم عنه، أيضا، خسارة حركة فتح لموقعها كقيادة أحادية لذلك النظام، يقف اليوم على أبواب انقسام أخر لكن هذه المرة يطاول الخريطة السياسية الفلسطينية، ويطاول حركة فتح ذاتها.
ومن مختلف الجوانب فنحن إزاء نظام سياسي قديم، مع طبقة سياسية باتت قديمة، أيضا، ولم يعد لديها ما تضيفه، منذ توقيع اتفاق أوسلو (1993) والتحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة، في جزء من أرض لجزء من شعب مع جزء من حقوق، ومع كل هذا الجمود في البني السياسية الجامعة للشعب الفلسطيني.
وعلى الصعيد السياسي، فلعلّ من سخريات قدر الفلسطينيين أنّ حركتهم الوطنية التي كانت تطالب بدولة واحدة باتت لها دولتان، مع سلطتين وحكومتين، وأن كل واحدة منهما تخضع مباشرة أو مداورة لهيمنة الاحتلال وقيوده، والأنكى أن أي واحدة منهما لا تعمل إزاء الأخرى، إنْ بشكل تعاضدي أو تكاملي، للتخلّص من هذا الواقع، بقدر ما تعمل بطريقة ضدّية وتنافسيّة وتناحريّة.
إضافة إلى ذلك، فإن الفلسطينيين شهدوا 16 تشكيلة حكومية، منذ إنشاء السلطة في 1994، بواقع حكومة كل عام ونصف، من دون أن نذكر تشكيل حكومتين في غزّة منذ الانقسام في 2007.
وهذا يفيد بأن الفلسطينيين ربما بات لديهم، في هذه الفترة القصيرة، أكبر عدد من الوزراء بالقياس لأي دولة أخرى في العالم، مع 24 وزيراً في كل حكومة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فثمة أيضاً جيش من وكلاء وزراء ومدراء عامين للوزارات وقادة أجهزة أمنية وسفراء ومستشارين… وكل ذلك يتطلّب بداهة موازنات ومرتّبات باهظة ومصاريف مهمّات تشكّل عبئاً ضاغطاً على كاهل الفلسطينيين، الذين يعانون أصلاً من قلة الموارد الذاتية، ويرتهنون في مداخيلهم إلى المساعدات الخارجية.
وإلى جانب السلطة، ثمة أيضاً منظمة التحرير، فهذه رغم أنها لا تشتغل بالشكل المناسب، إلا أن جسمها ما زال موجوداً، بغض النظر عن فاعليته، بعد التهميش الذي تم لصالح السلطة. هكذا، فثمة لجنة تنفيذية، ومجلس مركزي، ومدراء دوائر، ومدراء مكاتب، وكذلك ثمة موازنات ومرتّبات، مع ملاحظة إن المجلس الوطني لم يعقد إلا دورتين عاديتين الأولى في العام 1996، والثانية في العام 2018، أي دورتين خلال 22 عاما!
الضلع الثالث في مثلّث الكيانات الفلسطينية يتمثل في الفصائل التي تتوزّع على 16 فصيلاً، بحجم يزيد حتى عن الأحزاب الموجودة في دول كبرى عديدة، بما فيها أكبر دولة عربية، وهي مصر! علماً أن ثمة لكل فصيل قيادة ومكاتب وموازنات ومتفرّغين، ونظاماً من العلاقات البينية، والاعتمادية في الموارد، وارتهانات وتوظيفات سياسية.
وما يزيد هذا الوضع تفاقماً، أن النظام السياسي الفلسطيني السائد منذ أكثر من أربعة عقود، تأسّس على نظام المحاصصة الفصائلية الكوتا، الذي يؤبّد هذا الواقع ويعيد إنتاجه، رغم التطوّر المتمثل بوجود انتخابات تشريعية في الداخل، مع إنشاء السلطة 1994، ولا سيّما رغم أن كثيراً من الفصائل لم يعد لها مكانة تمثيلية وازنة في المجتمع، ولا تقوم بأي دور في مجال الصراع مع إسرائيل، ولا تضيف شيئاً لا على صعيد الفكر ولا على صعيد التجربة ولا على صعيد النموذج، مع ملاحظة أن مرسوم الانتخابات الذي صدر مؤخرا يعد باستكمال المجلس الوطني، وهو مصطلح يفيد بالتعيين، والتقاسم وفق نظام الكوتا للفلسطينيين في بلدان اللجوء والشتات، وهي وصفة لتعويم الطبقة السياسية المهيمنة.
هذا يعني أن ثمة شبكة من القياديين والمتنفّذين في كل هذه الكيانات باتت بمثابة طبقة سياسية قائمة في ذاتها ولذاتها، وأضحت من الرسوخ بحيث تستطيع فرض مفاهيمها وعلاقاتها وأشكال عملها على الحقل السياسي بمجمله، أي على المنظمة والسلطة والفصائل، وأصبحت من القدرة بحيث تستطيع إعادة إنتاج نفسها بنفسها، ضمن منظومة من علاقات ووسائط السيطرة السياسية والمالية والأمنية وبفضل ما تحوزه من فائض قوّة تستمدّه من علاقاتها الإقليمية.
وتكمن مشكلة هذه “الطبقة” في حرصها على حراسة واقع التكلّس في البنى والسياسة في الساحة الفلسطينية، وفي سعيها إلى تأبيد مكانة السلطة ولو على النحو الذي هي عليه، وفي إصرارها على استمرار المفاوضات، رغم تبيّن عدم جدواها وإضرارها بمصالح الفلسطينيين، وفي ممانعتها لأي تطوير أو تجديد في منظومة الكيانات والخيارات الوطنية، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها ونفوذها.
طبعاً ثمة عوامل تسهّل لهذه “الطبقة”، التي باتت بمثابة “جيش”، تعزيز هيمنتها على الفلسطينيين، والسيطرة على حراكاتهم الشعبية. وهذه تكمن في:
أولاً، تمزّق المجتمع الفلسطيني، الذي يتوزّع على بلدان عديدة، ويخضع إلى سلطات وظروف متباينة، ما يضعف الحراكات المجتمعية ويشتّت قوّتها وفاعليتها.
ثانياً، عدم اعتماد الكيانات السائدة على موارد شعبها، بقدر ما أن قطاعات من شعبها تعتمد في مواردها عليها لا سيما في الأراضي المحتلة وإلى حدّ أقل في مخيمات لبنان. وبديهي أن الارتهان المعيشي ينجم عنه نوع من ارتهان سياسي.
ثالثاً، لم تعد الشرعية السياسية الفلسطينية، منذ زمن، تتحدّد بعلاقات الإقناع، وبالدور الوطني، وبصناديق الاقتراع، بقدر ما باتت تخضع لوسائط السيطرة المباشرة عبر الأجهزة الأمنية، والتحكّم بمورد العيش، والنفوذ السياسي.
رابعاً، غلبة الروح الأبوية، وعلاقات المحسوبية والزبائنية في الكيانات السياسية بمجملها، على حساب الطابع المؤسّساتي والعلاقات الديموقراطية والروح النقدية.
خامساً، تستمد الطبقة السائدة بعضاً من شرعيتها من ماضيها النضالي، بسبب انتمائها إلى جيل الآباء المؤسّسين للثورة المعاصرة، لا سيما في ظل سيادة نزعة عاطفية بين الفلسطينيين تقدّس التضحيات من دون السؤال عن الانجازات أو حسابات الجدوى.
على أية حال يؤمل أن تأتي الانتخابات القادمة بمستجدات أو تغيرات تمهد لإحداث تغيير سياسي فلسطيني، فهذا أقل ما يمكن توقعه، لانتشال الحياة السياسية الفلسطينية من حال الجمود والتكلس التي تعتريها.