من استمع لخطاب عباس منصور عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس القائمة الموحدة ذات التوجه الإسلاموي يدرك حجم الخطر الذي يدهم وحدة الهوية الفلسطينية، فقد وصل به الأمر لتعريف نفسه بأنه «مسلم عربي ومواطن إسرائيلي» في إطار مغازلته لليمين الاستيطاني مسقطاً هويته الفلسطينية التي تستفز هذا اليمين، ودون أن يذكرها.

عندما يجد الفلسطينيون بينهم من يدعم ألد أعداء مشروعهم «بنيامين نتنياهو» فهذا يعني أن «الفروقات الثقافية «كما درج علماء الاجتماع على تسمية الفروقات بين جغرافيا الوطن الواحد وصلت حد تشتت الهوية الواحدة إلى هويات متباعدة حد التصادم، وهو ما أحدث صدمة لدى الكثير من المراقبين، صحيح أن أزمة الإسلام السياسي تكمن في صعوبة تمييز تحالفاته وأصدقائه أو أعدائه والذي يمكن أن يتحالف مع ألد الأعداء من أجل مصلحته ولكن ليس إلى الحد الذي يكون داعماً لأعداء شعبه.

المسألة ربما يجسدها بشكل صارخ عضو الكنيست عن الحركة الإسلامية لكن تصادمت ذات مرة هويتان على أرض غزة حد السلاح والدم وأدى ذلك إلى انقسام سياسي ثقافي جغرافي تماماً كان يصب في خدمة مشروع إسرائيل بتفتيت الهوية الوطنية من خلال عزل التجمعات الفلسطينية والتحكم فيها، فعند إقامة إسرائيل توقف النمو الطبيعي للمجتمع الفلسطيني وكف عن التماسك والتطور وبقيت في فلسطين ثلاثة تجمعات في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48.

وأخذت كل مجموعة سكانية تعيد صياغة نفسها وفقاً لمستجدات وتداخلات مستحدثة بفعل الواقع كانت غزة أقرب لمصر والضفة الغربية أقرب للأردن أما فلسطينيو الـ48 فقد عملت الدولة الإسرائيلية على محاولة أسرلتهم.

لكن القدر يهدي الشعوب ميلادها من بطن الكوارث. فعند احتلال بقية فلسطين إثر حرب حزيران 67 انتهت عزلة التجمعات الثلاثة وفرضت نتائج الحرب تواصلاً بعد انقطاع ما سمح بإعادة صياغة هوية جمعية كانت بعد عقدين تؤسس لانتفاضة تحرك فيها الكل الفلسطيني في حيفا ورام الله وغزة ورفح وجنين، وفي لحظة مؤسسة جامعة وحيوية كمنظمة تمكنت من التقاط اللحظة وتحويلها إلى مشروع سياسي.

بعد الانقسام تمكنت حركة حماس كمشروع للإسلام السياسي من طرد السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية من قطاع غزة، وهذا يذكر بمشروع منصور عباس بالانسلاخ عن بقية المجتمع.

ولكن ما حدث آنذاك أن تعزز الفصل ليس الجغرافي فقط والذي بدأته اسرائيل منذ الانتفاضة وتعزز بعد قيام السلطة بل الفصل السياسي والثقافي والاجتماعي كأن الأمور عادت إلى ما قبل العام 67. وكانت كل منطقة تعيد استكمال تطورها بهوية وثقافة مختلفتين ومتباعدتين إلى الدرجة التي بات في السنوات الأخيرة كأن هناك مجتمعين فلسطينيين على ضفتي إسرائيل ولكل مجتمع هويته وثقافته ومؤسساته التي تحمي وتنمي هوية مختلفة.

وإذا كانت حركة حماس قد بدأت هذا الانسلاخ، فلم تكن السلطة الوطنية بردة فعلها أكثر ذكاء في معالجة واقع الانفصال الهوياتي، وهذا يحدث حين يتصدر المشهد شخصيات لا تحمل مشروعا اجتماعيا ثقافيا مصاحبا للمشروع السياسي وكان أحد أبرز أوجه التواصل بين الضفة الغربية وغزة هم طلاب غزة الذين كانوا يدرسون في جامعات بيرزيت والنجاح، وبين الصراع والاتفاق انهار كثير من المفاهيم والقيم المشتركة.

نشأت مجموعات بشرية أو مجتمعات أصبح من الصعب الإشارة إلى قواسمها المشتركة ولكل تجمع همومه التي أفرزها الواقع والفعل الإسرائيلي، ولكل تجمع نظامه ومنظومته الاجتماعية والسياسية واهتماماته وحاجاته وأولوياته ونمط التفكير.

ولم يعد الأمر في إطار الفروقات الثقافية بل أشبه بثقافات مغايرة تماماً وفي ظل انهيار المؤسسة الجامعة «منظمة التحرير» وتلاشيها ونشوء مؤسسات سلطوية على الجانبين وكل واحدة مختلفة عن الأخرى في كل شي، كان عقد ونصف العقد كفيليْن بصناعة مجتمعين متباعدين ليس فقط بالمعنى الاجتماعي والثقافي بل بالمعنى النفسي حد الاغتراب.

في إسرائيل لم ننتبه إلى أن الأمر كان يسير باتجاه آخر، هذا الاتجاه عززه الانقسام بين الفلسطينيين وانهيار مشروعهم التحرري وكذلك عززه الاضطراب في الإقليم وهو ازدياد الميل نحو الأسرلة وهو ما يمثله منصور عباس متحرراً من قبضة هيمنة الحلم الفلسطيني، إلى الدرجة التي أسقط فيها كلمة «فلسطيني من تعريفه لنفسه» فيما كان يعرف نفسه متفاخراً كإسرائيلي.

الأمر ليس ترفاً فكرياً بقدر ما أن أي مشروع وطني يحتاج أولاً إلى وعاء جامع ومجتمع متماسك ليس بالضرورة أن يتماسك جغرافياً، فالمشروع الصهيوني يجمع كل يهود العالم. لكن المهم التماسك الهوياتي والسياسي والثقافي وهذا يحتاج أولاً إلى مؤسسة جامعة وبات من الواضح أن منظمة التحرير التي تضمحل هي الوحيدة التي تستطيع.

فهل يمكن إعادة بنائها كمشروع أكبر من صراع بين فتحاويين أو مؤسسة شكلية، فالتفتت كبير إلى درجة التهديد الذي تظهر تداعياته في كل شيء. فالفلسطينيون بحاجة إلى مشروع جامع يعيد بعث الهوية المشتركة وإلا سيزداد الانقسام بين مزيد من الشعوب الفلسطينية...!