يقال بأن التآمر هو قلبُ السياسة, ويقصد به أن ما لا تستطيع السياسة تحقيقه عن طريق الاتفاقات والمعاهدات تستطيع تحقيقه عن طريق الحرب والخداع والمناورة, وكل دولة في العالم لها سياستان: سياسة معلنة مزيفة بشعارات ومبادئ أخلاقية وقانونية, وسياسة سرية أو خفية يرسمها استراتيجيون وأجهزة المخابرات يطبقونها في الخفاء ويلجأون إليها وقت الحاجة.
لا يمكن إزاحة الأحداث على الساحة الفلسطينية عن بوتقة نظرية المؤامرة بما تحمله من مبادئ وتكتيكات تجعل أتباع ومُطبقي هذه النظرية متقدمين بخطوة على غيرهم, لذلك فإن العلاقة بين الغرب الاستعماري المتمثل في الولايات المتحدة والعالم العربي والاسلامي لابد أن تستدعي وجود جانب من التآمر لاعتبارات جغرافية وتاريخية عدة, فصفقة القرن التي أعدت لتصفية القضية الفلسطينية, ولتحقيق مصالح الإسرائيليين (المتغربنين) وعلى رأسها حُلم الدولة, لذلك لا تخرج الصفقة عن نظرية المؤامرة التي أُعدت في الوقت الذي يتشرذم فيه البيت الفلسطيني, وتنتشر العداوة بين أطيافه.
ما جرى في الأيام الماضية بين المقاومة الفلسطينية والعدو الاسرائيلي هو جزء من استراتيجية أعدت سابقاً وآن الأوان لنشرها, فقيام الاحتلال بضرب مواقع للمقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة, إنما هو تدرج لما هو أكبر من صد خطر الطائرات الورقية التي أنهكت والتهمت ما كان من الأراضي المحتلة.
انسحاب خيمة المواجهة بين الطرفين إلى تصعيد, ليس إلا انسكاباً لرغبة إسرائيلية في التخلص من خطر الطائرات الورقية كمهدد فاعل ورئيس في هذه الآونة, و هاجس الصواريخ التي تُفزع الشارع الإسرائيلي, والمراد الخفي من ذلك وما كانت إسرائيل لا تريده الأن تدمير البنية التحتية لحماس داخل القطاع, ففي الفترة الماضية كان يتم الرد على القصف بالقصف دون توسيع للعملية, لأن إسرائيل مدركة بأنها بحاجة لترك حماس في بناء بنيتها حتى يتم تحقيق ثمار أكبر في حالة التصعيد الشامل.
مجمل التحليلات الإسرائيلية كانت ملوحة بأن خيار الحرب هو خيار متاح أمام إسرائيل, إلا أن نبرة التخوف دائماً كانت حاضرة من قول الحرب الشاملة, لأنها مدركة بأن القيادة لديها تتبع استراتيجية التركيز على الشمال بظروفه الحالكة وأن أي تصعيد على قطاع غزة ما هو إلا ضرب من الغباء, فالمشكلة الأعظم تكمن هناك, وهي مدركة أن ما تحاول حماس فعله هو جر إسرائيل لحرب تجعل الضغط عليها لإيجاد حلول للأزمة الإنسانية أعظم, ويصبح شرط وواجب بتدخل دولي حثيث.
تبادل الضربات بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل هو ظرف طبيعي يمر به قطاع غزة بين الفينة والأخرى, وإتباع حماس سياسة ضبط النفس طرح مقبول في الأوقات الحالية, فلا يمكن أن تضيع دماء وجهود أكثر من مائة يوم من مسيرة العودة الكبرى بحرب, تكون بعدها المطالب المطلوب من إسرائيل تحقيقها أقل من الحد الأدنى لمتطلبات المسيرة.
كانت إسرائيل تدرك بأن مسار المقاومة الفلسطينية خلال الأسابيع الماضية في تغير تدريجي, فهي لم تعد تتبع سياسة التأجيل إنما ترد مباشرة على الضربات الإسرائيلية التي توجه داخل القطاع, وهذا ما رفع من وتيرة التصعيد الأخير, إضافة أنه يُعبر عن رغبة إسرائيلية في تغيير معادلة القصف بالقصف والقول بأن خيار المواجهة الشاملة مفتوح لدى قيادة الجيش كما ورد في القناة العاشرة.
تدخل الوساطة الإقليمية لإنهاء التدهور كان ضرورة ملحة لمنع الانزلاق فوجهة كل طرف كانت عدم الانجرار لحرب فكلا الطرفين لا يريدان المقامرة, ولا الخروج منهزم من هذه الجولة, فحماس تعيش في دائرة مغلقة من الخيارات وخاصة في ما تواجهه من ضغوطات للقبول بصفقة القرن والتي اعتبرت المشجع الأول لخوض إسرائيل غمار التصعيد كان لضرب حماس بالعمق للقبول بالحلول الدولية المطروحة, على الجانب الآخر لا تعتبر حالة اليمين المتطرف أفضل حيثُ يتعرض نتنياهو داخل الحكومة لضغوطات لإشعال الأوضاع في جبهة قطاع غزة, فما كان من نتنياهو إلا وأنه اتخذ ما ينجيه أمام أعضاء الكابينيت وتمثل في مواجهة الطائرات الورقية بالرد العسكري.
لا يمكن القول أن جولة التصعيد قد انتهت, إنما يمكن اعتبارها هدوء مؤقت لضربة أشمل وإذا لم تكن في الوقت القريب فهي مطروحة على الطاولة وفي إشارة لذلك ما ورد عن عاموس هارئيل " الهجمات التي نفذها الجيش الاسرائيلي في وضح النهار هي جزء من جهد متواصل يهدف إلى تجريد حماس من الوسائل القتالية تمهيداً لضربة محتملة في المستقبل".
في وقتنا الحالي تلعب الوساطة الإقليمية وعلى رأسها مصر الدور الأول في إنقاذ الأوضاع من التدهور, فقدرة مصر والأمم المتحدة على إقناع الطرفين بوقف إطلاق النار يُثمن, ولكن لا يمكن الاعتماد عليهما في جولات تصعيد أخرى, فإن كان الخيار هذه المرة هو ضبط النفس فلن يكون كذلك في كل مرة.
إنقاذ الحالة الفلسطينية من التدهور يحتاج إلى بناء وحدوي داخلي, لذلك يجب على الطرفين إنجاح المصالحة التي تديرها مصر بشتى الظروف والطرق, والتخلص من عهد الخلافات الذي أخذ ما أخذ من دماء الشهداء وأراضي الفلسطينيين, وأنهك المواطن وأثقل كاهله بحزبية أغرقته في فقر وجوع.