بات من الواضح لأعمى البصيرة أن الشعب الفلسطيني تأثر بأجواء الانتخابات بشكل كبير، وأبدى رغبته بشدة طيلة الفترة القليلة الماضية، لإجراء الانتخابات العامة، لعلها تحدث تغييرًا في واقعه البائس الذي خلقه الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني منذ أكثر من عقد من الزمن، والذي طمس حقه في انتخاب من يمثله ومن يراه مناسبًا للحكم، فأقول إنه كان توقًا لتحسين وضعه الاقتصادي والمعيشي كأولوية أهم بنسبة إليه، وإزالة وجوها بالدرجة الأساسية تربعت على عرش سلطة تحت احتلال وأصبحت متنفذة وفاسدة ومكتسبة لأنفسها وعبيدة لمصالحها الشخصية والحزبية على حساب مصلحة الوطن والمواطن.
ومن جديد يضعه قرار الرئيس عباس الخاص بتأجيل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في مايو القادم بداع أن إسرائيل لن تسمح بإجرائها في القدس المحتلة، في مواجهة أشد مع الإحباط وفقدان الأمل بإجراء الانتخابات بحلقاتها الثلاث، والتي فتحت آمالًا لديه في إنهاء الانقسام، وفي إمكانية التغيير دِيمُقْرَاطِيًّا، وإعادة بناء مؤسسات السلطة والمنظمة. والحالة السائدة الآن بعد الإعلان الصريح عن إرجاء الانتخابات دون موعد يذكر، ويبدو أنها في طريقها إلى النسيان والتأقلم بأنها كانت تجربة حماسية وانتهت، تظهر أن جزءًا كبيرًا من الشعب لم يتعاط مع حديث الرئيس أو حتى يقتنع بشعاره المخصص: لا انتخابات دون القدس، ولا حتى أن لديه رغبة بقبول خطاب حركة فتح الإعلامي المؤيد للرئيس والرافع لذات الشعار المستهلك، لأنه فقد قوته واندفاعه نحو الانتخابات لأجل التغيير، ويعيش حَالِيًّا أسوأ مراحل الإحباط واليأس. والجميع غير مختلف على أن الانتخابات يجب أن تجرى أولًا في القدس ثم باقي الأراضي الفلسطينية، وهناك تأكيد شعبي وفصائلي على إجراء الانتخابات ترشيحا وانتخابا ودعاية بالمدينة المقدسة، لكن ليس من المعقول وطنيا أن يتخذ الرئيس قرار التأجيل وتمهد له حركة فتح من أيام عبر تسريب معلومات لمواقع محلية أن مسألة التأجيل قريبة، لمجرد أن إسرائيل لم تقول لقيادة السلطة: تفضلي وأجري الانتخابات بالقدس كما في السابق، فلا مانع لدينا، لأننا نحب أن نراكم ديمقراطيين.
وهل من المعقول أن يقول الاحتلال هكذا ويسمح بإجراء الانتخابات في القدس بكل هدوء، وخاصة أنه يعتبر أن القدس عاصمة له، بعد اعتراف إدارة ترمب بذلك، ويظهر حنيته للفلسطينيين. وهل معقول أن ننتظر الحنان والرضغ من الاحتلال حتى نجري الانتخابات بالقدس، وهل معقول أن نستنجد بالأمريكان والأوروبيين لكي يضغطوا على الاحتلال للقبول بمرادنا، وهل قرار التأجيل مُجهز مسبقًا وأعلن الآن، بناءً على معرفة بما سيحدث للكثير من جماعة الصف الأول، للهروب من استحقاق الانتخابات من سلم القدس، وهل نحن ضعفاء لهذا الحد لكي نفرض معركة وطنية ضد الاحتلال في الضفة والقدس، لإجراء الانتخابات دون أي تدخل وبلطجة منه، وما المشكلة في أن نضع صناديق الاقتراع بأي مكان في القدس الشرقية أو حتى في باحات المسجد الأقصى أو في كنائسه أو شوارع وأحياء القدس، وأن نبدأ العملية الانتخابية وننتظر سلوك الاحتلال العدائي يوم الاقتراع وإن تحرك نفضحه أمام العالم، ثم بعدها تتخذ القيادة قرار التأجيل، لتسجل على نفسها أنها قررت وحاولت وواجهت وناضلت لأجل شعبها، وما الذي يمنع أن تقود قيادة السلطة حراكًا شعبيًا في القدس لمواجهة خطوات الاحتلال المتعلقة بالانتخابات والتضييق على المقدسيين؟
أسئلة جمة محرجة للقيادة الفلسطينية، يطرحها كل فلسطيني لعله يجد إجابات لها بطريقة عقلانية واستيعابية، بعيدًا عن الشعارات الوطنية المستهلكة وأساليب التخوين والمزايدات لتبرير القرار.. وحاولت فيما كتبته أن أبتعد عن الشحن الشعبي والتنظير الفكري.. لمعرفتي بأن شعبي قادر على إحراج قيادته التي لم أرغب بتعريتها هذه المرة لسبب أن موقفها الأخير بشأن الانتخابات شنيع أكثر من قراراتها وسلوكها في الشأن الداخلي أو حتى في الشأن السياسي العام، وكذلك يمكن لذلك الشعب بكل بساطة أن يثور بوجه الاحتلال إن مهدت تلك القيادة الطريق أمامه وينتعش ثوريًا. وأشك أن تفعل ذلك.