لعل من أهم مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي تم تطويرها وتعديلها أكثر من مرة استجابة لنتائج حروب إسرائيل المتوالية خلال العقدين الماضيين، على الساحتين اللبنانية والفلسطينية، تلك التي تتعلق بنقل معارك الحرب إلى أرض العدو، وفي سياق تعديلات هذا المرتكز، فقد تم استبدال الاحتلال لأرض العدو من خلال القوات البرية إلى قصف جوي منهجي متواتر ومتّصل ومركّز من خلال قوات الجو والبحر والبر في وقتٍ واحد، إلاّ أن نتائج الحرب الرابعة الأخيرة على قطاع غزة، جعلت من هذا التطور المتهوّر نقيضاً لهذه الركيزة، فقد تحوّل ما يسمى غلاف غزة ليشمل كل اسرائيل التي باتت تحت سطوة الصواريخ الفلسطينية، وهكذا انتقلت معارك الحرب خلافاً للعقيدة الأمنية الاسرائيلية إلى ارض الجانب الاسرائيلي نفسه.
لكن تصريح رئيس الحكومة الاسرائيلية مؤخراً نفتالي بينيت من أنّ إسرائيل على استعداد لتنفيذ اجتياح بري واسع على قطاع غزة إذا لزم الأمر يعيد لنظرية الأمن الاسرائيلي الشكل التقليدي لها فيما يتعلّق بنقل معارك الحرب إلى أرض العدو أي الاحتلال البري، علماً أن بينيت استخدم مصطلح اجتياح برّي واسع أي ليس احتلالاً وليس اجتياحاً شاملاً، ما يشير إلى أنّ القصد هو احتلال جزئي حسب هذا التصريح الذي يتعارض بشكلٍ ملموس للإمكانية ذلك من الناحية الواقعية بالنظر إلى ميزان القوى الذي بات أكثر وضوحاً بعد حروب اسرائيل على الساحتين اللبنانية والفلسطينية ذلك أنها لم تعد تسيطر على هذا الميزان.
قد تكون الحرب التي شنتها اسرائيل على قطاع غزة قبل شهرين شبيهة من نواحٍ عديدة لتلك التي شنتها على لبنان 2006، من حيث الاستخدام الصاروخي المكثف من قبل المقاومة وفي كل من لبنان وفلسطين، وفي المقابل القصف الإسرائيلي المركّز لكل أشكال الأسلحة التي تمتلكها على ما يسمى بنك الأهداف العسكرية والمدنية على حدٍ سواء، وانكشاف عجز القدرات السيبرانية والاستخبارية الاسرائيلية عن كشف حقيقي لبنك الأهداف هذا، إلاّ أن الفارق بين الحربين يعود إلى أنّ القوات الاسرائيلية توغّلت في أراضي جنوب لبنان خاصة في القطاع الأوسط، إلاّ أن الثمن الذي دفعته من عدد كبير من القتلى اضطرها إلى الانسحاب من دون أن تحقق أي هدف، أمّا في الحرب الرابعة على قطاع غزة فقد اعتمدت على ما يسمى في العلم العسكري «الاستطلاع بالقوة» لمعرقة مدة جاهزية المقاومة واستخدمت هذه التجربة الفاشلة في إحدى ليالي هذه الحرب على شمالي قطاع غزة، عندما حاولت جر المقاومة إلى وهم بدء الحرب البرية، وقد سقطت هذه المناورة بفضل حس المقاومة الأمني إزاء خداع العدو. نتائج هذا «الاستطلاع بالقوة» أكد لقوات الاحتلال أن لا مفر من التسليم بأن أي اجتياح جزئي أو كلي لقطاع غزة غير ممكن من الناحية العملانية، ليس فقط بسبب عدم قدرته على تحمّل الخسائر الفادحة بعدد القتلى والمعدات الحربية، ولكن وهو الأهم أنّ حرباً برية على قطاع غزة رغم الخسائر الهائلة على الجانب الفلسطيني لن تكون كافيةً للحصول على صورة النصر المطلوبة غير المشكوك فيها ودون تحقيق الأهداف التي شنت بسببها هذه الحرب، اضافة، في طبيعة الحال، إلى تأثير الأبعاد السياسية التي تتدخل من أجل وضع حدِ لهذه الحرب.
إنّ الصراعات الداخلية المحتدمة بين حكومة بينت ومعارضة نتنياهو ستتحكم بالقرار الاسرائيلي الذي سيظل حسب اعتقادنا في سياق «الاستطلاع بالقوة» والضربات الموضوعية، إلى أن يتم تحديث الأداة السيبرانية والاستخبارية بحثاً عن بنك أهداف ليس بمتناول اليد الإسرائيلية.