سيدخل التاريخ الفلسطيني، يوم السادس من أيلول (سبتمبر)، يوم انتزع ستة أسرى حريتهم عنوة عن الاحتلال وقيوده الأمنية المشددة في سجن جلبوع المخصص لأصحاب المحكوميات العالية، عبر نفق حفروه من سجنهم في «سجن الخزنة» كونه من أكثر السجون تحصيناً وأمناً، وشُيّد على شاكلة السجون الإيرلندية في عام 2004 في بلدة بيسان الفلسطينية في مناطق الـ48، والذي جرى تصميمه على أساس أقسام منفردة مفصولة عن بعضها، وكل قسم بمثابة سجن منفرد، وكل خروج من القسم يمر في مسارات داخلية محاطة بجدران وأسلاك وأجهزة رقابة وكلاب بوليسية، وأرضية مبنية بالباطون المسلح وبطبقة فولاذية أسفلها صفائح فولاذية تستخدم في صناعة دبابات «الميركفاه» التي طالما تباهى الاحتلال بعظمتها وقوتها.
وسيشهد التاريخ أن الأسرى الستة الذين تنسموا طريق الحرية، الأسيرين محمود ومحمد عارضة، والأسيرين يعقوب قادري ويعقوب انفيعات والأسير أيهم كممجي والأسير زكريا الزبيدي، ابتدعوا أساليب النضال المختلفة لامتلاكهم إرادة الصمود والتحدي وإدراكهم ان فجر الحرية آت لا محالة وأن زنازين وسجون الاحتلال وقيوده الأمنية وإجراءاته المشددة إلى زوال.
إن رواية الأسرى الستة ستدُرس في مدارس وجامعات الإرادة والصمود والعزيمة، وان انتزاع حريتهم سيكتبه التاريخ، كما دخل الشهيد عز الدين القسام بوابة التاريخ وكما دخل محمد جمجموم وفؤاد حجازي وعطا الزير التاريخ أيضاً في ثورة البراق وما تلاها من انتفاضة شعبية ضد الحركة الصهيونية، وكما دخل أبطال سلسلة العمليات في عيلبون ومعالوت وحصن مرغنيت والطريق إلى فلسطين وسواها من العمليات البطولية التي قادها مناضلون فلسطينيون وعرب ضد الاستعمار البريطاني والاحتلال الاستعماري الصهيوني.
قصص انتزاع الأسرى الستة حريتهم التي حيّرت العالم وهزت منظومة وأركان الاحتلال الأمنية في أعتى حصونه قوة ومتانة التي دوماً يتباهى بها، حتى أن تم اعتقال بعضاً منهم، لن يمحو آثار الفضيحة الأمنية التي مُني الاحتلال ومنظومته بها بل تحولت قصصهم لأيقونات وطنية خالدة في ذاكرة الشعب الفلسطيني، سيحاكي المخرجون والسينمائيون بأفلامٍ قصصهم، وكتبَ وسيكتب الكُتاب والإعلاميون والتي ضجت وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والدولية بالحديث عنهم في كافة التحليلات والنشرات والتقارير الإخبارية وعن انتزاع حريتهم وعزيمتهم التي هي جزء من عزيمة الشعب الفلسطيني الذي يواصل نضاله ومقاومته بكل السبل حتى دحر الاحتلال الصهيوني وقطعان مستوطنيه عن كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 67 وعاصمتها القدس وإنجاز الاستقلال وتقرير المصير وعودة اللاجئين إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها عام 48.
لم يكتف الاعلام الفلسطيني والعربي والدولي بتسليط الضوء على «سجن الخزنة» ونفق الحرية وكيفية التعاطي الصهيوني مع انتزاع الأسرى حريتهم الذي حيّر السياسيون والإعلاميون وحتى مخرجي وسينمائيي أفلام هوليود، بل طال هذه القصة الإعلام العبري على مختلف مشاربه، حيث قالت صحيفة هآرتس إنه «لا يوجد دليل حول تعاون الأسرى المحررين وسجانين»، ووصفت صحيفة يديعوت أحرنوت قائلة «السجن نفسه، القسم نفسه، خطة الهروب نفسها، النفق نفسه، ولكن النتيجة معاكسة تماماً، «الهروب» في عشية العيد من سجن جلبوع لستة أسرى خطيرين بعد سبع سنوات فقط من إحباط محاولة هروب مشابهة في حجرة مجاورة في اللحظة الأخيرة، يدلل على سلسلة إخفاقات لا تذكر ما تسمى «مصلحة السجون» مثيلاً لها، ليس صدفة أن نال «الهروب» المعيب لقب «يوم غفران مصلحة السجون».
فيما طالب ممثل سينمائي إسرائيلي طال فريدمان، زكريا الزبيدي قبل أن يتم إعادة اعتقاله بالعودة ومشاركتهم وجبة عشاء العيد، كون الآلاف من قوات الاحتلال لم تشارك عائلاتها احتفالات العيد بل تشارك في البحث عن الأسرى، فيما اعتبر اللواء احتياط في جيش الاحتلال آفى بن ياهو، «عملية «الهروب» من نفق حفره ستة أسرى، بأنه إخفاق كبير جداً يكشف عن أوجه قصور خطيرة للغاية في المخابرات والأمن بالسجن، فحفر النفق يستغرق أشهراً ويتطلب اتصالات وتعاوناً مكثفاً». فيما أوضح الصحفي الإسرائيلي متان تسوري أن «المزارعين هم من أبلغوا عن نفق جلبوع وأنفاق غزة، ولا نعرف ماذا نفعل بدونهم».
فيما قال وزير الحرب الصهيوني بيني غانتس بالقول «لا ننوي قتل أي من الأسرى الستة»، وتوعد ألون شوستر ما يسمى وزير الأمن الصهيوني، «الأسرى الستة بالسجن لسنوات طويلة»، وكأن محكومياتهم مدى الحياة ليست سنوات طويلة، فيما أوضح الصحفي يوني بن مناحم أن «الصورة اتضحت بأن الأسرى لم يتلقوا أية مساعدة من الخارج، وهروبهم كان ارتجالياً».
فيما تسعى القناة العبرية الـ13 للتصيد في المياه العكرة في توجيه أصابع الاتهام للمواطنين العرب بالإدلاء بمعلومات عن بعض الأسرى المحررين في محاولة منها لضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني والعلاقات الداخلية بين مكونات الشعب الفلسطيني الواحد الذي فشل الاحتلال الاستعماري الإحلالي منذ نكبته الأولى عام 1948 من ضربها ولم يتوان عن ذلك، وتارة بالقول أن أجهزة مخابرات السلطة الفلسطينية هي من ساعدت في الوصول لأربعة من الأسرى المحررين.
لذلك تقع مسؤولية وطنية كبرى على الصحفيين ووسائل الإعلام الفلسطينية والعربية بالحذر الشديد في الوقوع في فخ الإعلام العبري والتعاطي معه على أن ما يبثه حقائق ومُسلمات، لذلك يتوجب التعامل مع الرواية الصهيونية أنها تبث سموماً لزرع الفرقة في المجتمع الفلسطيني وضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني وتوتير العلاقات الداخلية الفلسطينية.
أما شعبياً فيتطلب مزيد من الالتفاف حول قضية الأسرى وتكثيف فعاليات الإسناد والدعم للأسرى في معاركهم البطولية وفي إضراب الكرامة، خاصة في مناطق التماس، والاشتباك الميداني والجماهيري مع الاحتلال في الضفة الفلسطينية والقدس المحتلة وفي قطاع غزة وأراضي الـ48، كون قضية الأسرى هي قضية وطنية من الطراز الأول على شاكلة قضية القدس التي أشعلت معركة «سيف القدس» في أيار (مايو) الماضي.
أما المطلوب على المستوى الرسمي والمنظمات الغير حكومية التحرك دولياً وأممياً على كافة الصعد نحو تحشيد الرأي العام الدولي لتوفير الحماية الدولية لكافة الأسرى في سجون وزنازين الاحتلال وخاصة أسرى سجن جلبوع الذين أعادت قوات الاحتلال اعتقالهم، والإطلاع على معاناتهم ووقف الاعتداءات عليهم ومصادرة منجزاتهم ومكتسباتهم.
أما إعلامياً فبات مطلوباً تبني خطاباً إعلامياً يكون استقطابياً وعقلانياً وإنسانياً يستند لحقائق التاريخ والقانون الدولي، وتسخير الطاقات الإعلامية الفلسطينية في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة لخدمة قضايا شعبنا الفلسطيني، وتظهير الجانب العادل والقانوني لصورة النضال الوطني الفلسطيني، وتظهير الجانب الإجرامي العدواني لدولة الاحتلال وفضح سياسة الإرهاب الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وتوسيع الحملات الإعلامية للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال ودعم صمودهم في معركتهم البطولية باعتبارهم أسرى حرب ومناضلون من أجل الحرية، واستمرار احتجازهم واعتقالهم جريمة حرب وانتهاك فاضح لقرارات وقوانين الشرعية الدولية.
مشهد الوحدة الوطنية الفلسطينية، «وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة الحقوق الوطنية، ووحدة القضية، ووحدة المشروع الوطني مهما تمايزت أهدافه في المدى المباشر»، والنهوض الجماهيري يتجسد مرة أخرى بعد معركة «سيف القدس» في معركة الأسرى في سجون الاحتلال ومشهد نفق الحرية لأسرى سجن جلبوع وانتزاع حريتهم رغماً عن الاحتلال، والتي تضع المراقبين أمام واقع جماهيري جديد يمتد لعموم الأراضي الفلسطينية من القدس المحتلة والضفة الفلسطينية وإلى قطاع غزة وينتقل نحو الشتات الفلسطيني مروراً بأراضي الـ48 رغم افتقار الحركة الوطنية لقيادة وطنية موحدة ترسم الاستراتيجية النضالية الكفيلة بتحويل النضال والتضحيات لقوة تراكمية لاستنزاف الاحتلال ورفع كلفة احتلاله وخلخلة صفوفه الداخلية.
وختاماً، إن القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية والتقدمية في مناطق الـ48 تتقدم على الحالة الوطنية في مناطق الـ 67 عبر استطاعتها تشكيل أطر جامعة للنضال الجماهيري على الصعيد العربي لقيادة النضال عبر اللجنة العليا للمتابعة للجماهير العربية رغم القمع السلطوي وجرائم القتل والإعدامات بدم بارد للمواطنين العرب في القرى والبلدات العربية، وهنا تقع المسؤولية على القوى الوطنية والإسلامية والفعاليات الشعبية بضرورة التعجيل بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية لخلق واقع نضالي استراتيجي فلسطيني جامع لتغطية ساحة الحضور الفلسطيني في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني.