لم تعرض الإدارة الأميركية "الصفقة" حتى الآن بتفاصيلها بصورة رسمية رغم بدء الحديث عنها غداة تولي ترامب سدة الرئاسة الأميركية، وأعلنت عن مواعيد عدة للإعلان عنها، ولكنها لم تقدمها جراء المعارضة الفلسطينية الشديدة لها، التي أدت إلى معارضة عربية ودولية، الأمر الذي يجعل عرض الصفقة إعلانًا بوفاتها، فآثرت إدارة البيت الأبيض تأجيل الإعلان عنها لعل وعسى أن يليّن الرئيس محمود عباس والفلسطينيون موقفهم منها، أو يقبلوا التفاوض عليها لتعديلها.
لماذا لم ينتظر الفلسطينيون إلى حين الإعلان عن الصفقة وبعد ذلك يقرروا قبولها أو رفضها أو تعديلها؟
هناك مثل عربي مفاده أن "المكتوب يقرأ من عنوانه"، وهذا ينطبق على الصفقة، فما قامت به الإدارة الأميركية يدل على أنها محاولة لتصفية القضية الفلسطينية لا حلها. فقد بدأ ترامب عهده بتعيين فريق لا يتميز فقط بدعم أعمى لإسرائيل، بل إنه فريق صهيوني استيطاني استعماري عنصري يمثل إسرائيل، وتحديدًا اليمين الإسرائيلي، أكثر ما يمثل الولايات المتحدة.
وتخلت إدارة ترامب عن هدف إقامة الدولة الفلسطينية ومرجعية عملية السلام، وتركها تحت رحمة المفاوضات التي تتحكم بها عادة إسرائيل كونها الطرف القوي الذي لا يريد بأي حال إقامة دولة فلسطينية، ثم طرحت ما تسميه "التحريض الفلسطيني وتشجيع الإرهاب"، من خلال رفض صرف رواتب لعائلات الشهداء والأسرى، إلى درجة إقرار قانون أميركي يسمح بوقف المساعدات الأميركية تحت هذه الذريعة.
وطالبت واشنطن بضرورة الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة تمثل الوطن اليهودي، وما يعنيه ذلك من تخلٍ عن الرواية الفلسطينية التاريخية وفتح الطريق لتصفية الحقوق الفلسطينية برمتها، وأوضحت أن الاستيطان لا يمثل عقبة أمام السلام.
كما اعتبر ترامب أن قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها "كعاصمة يهودية لدولة إسرائيل" قد أزال موضوع القدس عن طاولة المفاوضات، ثم قلص المساعدات الأميركية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وطالب بتصفيتها وتغيير صفة اللاجئ ليشمل فقط اللاجئين الذين ولدوا في فلسطين، ولم يوقّع على قرار تمديد مقر المنظمة، ما يجعله بحكم المغلق، وجمّد المساعدات الأميركية للسلطة باستثناء المساعدات الأمنية الضروري استمرارها للإبقاء على التنسيق الأمني الذي يخدم أمن إسرائيل.
وأخيرًا، ركزت الإدارة الأميركية على أن قطاع غزة هو مركز الكيان الفلسطيني، لذا دعت السلطة لإعادة سيطرتها على القطاع، وعندما لم يتحقق هذا الهدف شجعت ما يسمى "الحل الإنساني" الذي يساهم في تحقيق الهدف الإسرائيلي القديم الجديد بفصل القطاع عن الضفة وتعميق الانقسام الفلسطيني ودفعه لمستويات أكبر وأعمق.
بعد كل ما سبق، هل يبقى أي مساحة أو مبرر للسؤال لماذا يرفض جميع الفلسطينيين الصفقة قبل عرضها، والجواب أن الصفقة التي تبدأ بنقل السفارة لا تنتهي إلا بتصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها.
في كل الأحوال، لن يغير من مضمون الصفقة تعديلها مرات عدة كما سرّبت الإدارة الأميركية، لأن هذا التعديل أشبه برش العسل على طبخة مسمومة، الذي لن يمنع أن تبقى مسمومة وقاتلة، بل نستطيع القول إن هناك حرصًا أميركيًا على إبقاء تفاصيل الصفقة غامضة للإيحاء بأنها مفتوحة للتعديلات لتشجيع القيادة الفلسطينية لقبولها أو التفاوض حولها. هذا الفخ الذي إذا وقعت فيه القيادة سيؤدي عاجلًا أو آجلًا إلى قبول الصفقة، فما تطرحه إدارة ترامب لا يوفر أي أساس يمكن أن يقبل البناء عليه، حتى أكثر الفلسطينيين اعتدالًا لا يستطيع قبولها.
إن الصفقة غامضة وعرضة للتعديل لكن على أساس أن الثابت الوحيد فيها أنها ستعطي لإسرائيل أقصى ما يمكن، ولن تعطي الفلسطينيين أي شيء، أو أقل شيء ممكن.
ارتكبت إدارة ترامب أخطاء عدة كان كل منها يقود إلى أخطاء جديدة، ومنها :
أولًا: الاعتقاد الخاطئ بأن الرئيس عباس لا يملك إلا قبول الصفقة، إن لم يكن فورًا فبعد شهر أو شهرين، وها هي الأشهر تمضي وأبو مازن يستمر في رفضه، الذي ترافق مع رفض الاتصالات السياسية الأميركية الفلسطينية، والدعوة إلى إطار دولي جديد للمفاوضات لا تحتكر فيه الإدارة الأميركية رعاية المفاوضات بعد أن انتقلت من دور الوسيط المنحاز الذي قامت به أميركا تاريخيًا إلى دور الشريك الكامل للاحتلال.
قاد هذا الخطأ إلى خطأ أكبر، ظهر في قول جاريد كوشنر في مقابلته مع جريدة القدس عندما حرض الشعب الفلسطيني - الذي تعامل معه كأفراد يهمهم جيوبهم وليسوا شعبًا يدافع عن حقوقه - على التمرد على قيادته إذا استمرت في موقفها، كونه يجهل حقيقة الشعب الفلسطيني وأنه متشدد في رفض صفقة ترامب أكثر من قيادته، فضلًا عن مطالبته لها بوضع خطة عملية شاملة قادرة على إحباطها.
ثانيًا: تصور كوشنر وفريقه أن العرب، وخصوصًا السعودية والإمارات ومصر والأردن، سيضغطون على الفلسطينيين لقبول الصفقة، وإذا واصلوا عنادهم سيكونون مستعدين للحلول محلهم، والمضي في خطة إقامة حلف عربي أميركي إسرائيلي ضد الخطر المزعوم الذي تمثله إيران، وما يقتضيه ذلك من تغيير في الأولويات والتحالفات العربية، وتطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل، لتتفاجأ الإدارة الأميركية بأن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه العرب لم يصل إلى حد الضغط الجدي على الفلسطينيين ولا التفاوض بدلًا منهم، ولا التطبيع الكامل مع إسرائيل من دون التوصل أو التقدم على طريق تحقيق حل يضمن قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
كما لم تحسب إدارة ترامب الحساب لموقف الشعوب العربية التي لا تزال ترى بأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، وأنها لن تقبل بالتخلي عنها، وهذا ما يدفع الحكام إلى التريث كثيرًا، لدرجة معارضتها كما جاء في مقررات القمة العربية وفي قمتين إسلاميتين وفي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
ثالثًا: تصور كوشنر وفريقه أن إسرائيل ستدعم الصفقة التي تحقق مطالبها، فصُدموا من وجود معارضة إسرائيلية قوية لها، فوَضْعُ بعض العسل على السم لا تريده الأطراف الإسرائيلية الأكثر تطرفًا، لذلك صرح جيسون غرينبلات أنه يتفهم إذا عارضت إسرائيل الصفقة.
هناك من يرى أن الإدارة الأميركية ليست بحاجة إلى الموافقة الفلسطينية على الصفقة، لأنها اختارت منذ البداية أو أصبحت تختار نهجًا مختلفًا عن نهج الإدارات السابقة التي كانت تطرح خطة وتحاول تسويقها، وفشلت كلها بالتوصل إلى حل، فاختارت الاعتراف بالواقع القائم مع مواصلة إسرائيل خلق وقائع جديدة على أمل أن يدفع هذا الفلسطينيين والعرب إلى قبول الصفقة في النهاية وليس في البداية، وأنها ستلجأ إلى سياسة العصا والجزرة، والسعي لتعميق وتعميم الانقسام الفلسطيني واستبدال القيادة الفلسطينية بقيادة ترضا بما ترفضه الحالية إذا واصلت رفض الصفقة.
يمثل هذا التغيير في الموقف الأميركي اعترافًا بالهزيمة من خلال عدم القدرة على الحصول على الموافقة الفلسطينية والعربية في البداية. أما سياسة خلق الحقائق على الأرض ودفع الأميركيين للاعتراف بها ثم العالم كله ووضع الفلسطينيين أمام أمر واقع لا يمكنهم رفضه فهي سياسة جاري العمل بها منذ تأسيس الحركة الصهيونية، وتواصلت بعد قيام إسرائيل واحتلالها للضفة والقطاع العام 1967، وفشلت مرارًا وتكرارًا إلى أن نجحت في توقيع اتفاق أوسلو الذي اعترفت فيه الضحية بالجلاد من دون أن يعترف بالحقوق الفلسطينية، بل اكتفت إسرائيل في أوسلو بالاعتراف بالمنظمة كممثل للفلسطينيين من دون الاعتراف بأي من حقوقهم.
نأمل أن تكون القيادة الفلسطينية قد أخذت الدروس والعبر من التجارب الماضية، وأهمها أن طريق التنازلات والاعتراف بالواقع لا يقود إلى تسوية معقولة أو حتى شبه متوازنة، بل قاد وسيقود لاحقًا إلى فتح شهية إسرائيل للحصول على المزيد من التنازلات وصولًا إلى تحقيق هدف إقامة "إسرائيل الكاملة".
أي حقائق يقيمها الاستعمار الاستيطاني العنصري الاحتلالي لا تعطيه حقًا ولا يترتب عليها أي التزام إذا لم تُمنح الشرعية لها من الضحية، من أصحاب البلاد الأصليين، لذلك من دون شريك فلسطيني لا يوجد صفقة، مثلما لا يوجد عرس بدون عريس أو عروس، وإنما في هذه الحالة ما يتحقق محاولة القوي فرض الحل الذي يريده على أرض الواقع. وهذا سيكون غير شرعي ومؤقتًا وقابلًا لتجاوزه في حال حدوث تغيير في موازين القوى على الأرض.
إن إسرائيل كانت ولا تزال بحاجة إلى شرعية واعتراف من ضحيتها، لذلك لا يمكن أن تمر الصفقة لا عربيًا ولا دوليًا إذا لم تمرر فلسطينيًا.
هناك من الفلسطينيين والعرب من يهول بصفقة ترامب ويتعامل معها كقدر لا راد له وأنه لا قبل لنا بإسقاطها، وأنها ستطبق بموافقة الفلسطينيين أو معارضتهم، وأنها ستضم دولة في غزة بعد توسيع القطاع بـ 720 كم مربع على حساب سيناء، وضم المعازل المأهولة في الضفة لها أو للأردن. وهذا وذاك مجرد مخططات موضوعة لدى الأوساط الإسرائيلية والأميركية منذ زمن بعيد، وهي لم تر النور سابقًا، ويمكن ألا تراه أبدًا.
وهناك من يصور وكأن مختلف الأطراف الفلسطينية تعمل على تنفيذ الصفقة، لدرجة نجد أن حركة فتح تتهم حركة حماس بأنها تشكل جسرًا لتمريرها، من خلال تطبيق مخطط فصل القطاع عن الضفة، تحت يافطات الهدنة طويلة الأمد والحل الإنساني للقطاع بمعزل عن السلطة وعلى حسابها.
أما "حماس" فتدعي أن الرئيس عباس هو الذي يساعد على تمريرها من خلال فرض الإجراءات العقابية على قطاع غزة، وعقد مجلس وطني انفرادي، والتمسك بهدف تمكين الحكومة، بمعنى السيطرة على القطاع من الباب إلى المحراب، أو إما تتحمل "حماس" مسؤولية كل شيء أو تتحمل السلطة التي تقودها "فتح" مسؤولية كل شيء.
الحقيقة أن مختلف الأطراف ضد الصفقة، ولكنهم يساعدون على تطبيقها من خلال عدم إنهاء الانقسام، واتخاذ مواقف وسياسات وإجراءات تعمق الانقسام الذي يشكل خسارة صافية للفلسطينيين وربح صافٍ لإسرائيل.
في المقابل، هناك من يهون بالصفقة، ويقول إنها ولدت ميتة، وإن الموقف الفلسطيني قضى عليها قبل أن ترى النور، أو حولها إلى خطر إقليمي، وبالتالي لا داعي للخوف والهلع .
يمكن إحباط الصفقة وليس عرقلتها فقط، من خلال بلورة رؤيا شاملة تؤدي إلى وحدة وطنية حقيقية، على أساس سحب الاعتراف بإسرائيل، والتمسك بالرواية التاريخية الفلسطينية ومختلف الحقوق، وعلى رأسها حق العودة، وتنبثق عنها إستراتيجية سياسية ونضالية جديدة، وتتوفر لها إرادة سياسية مستعدة لدفع الأثمان المطلوبة لتحقيقها.