شهدت الأسواق العالمية حالة غير مسبوقة من تنامي الارتفاعات في أسعار العديد من السلع الأساسية والضرورية، كالدقيق والزيوت والحبوب والبقوليات. ولقد ألقت تلك التغيرات الكبيرة في أسعار السلع بظلالها على شتى مناحي الحياة، وتسببت بتمهيد الطريق لإحداث أزمة اقتصادية عالمية، ركنها الأساسي نقص الغذاء وارتفاع أسعاره، بالتزامن مع حالة الركود الاقتصادية التي تسببها جائحة كورونا مما يضع الاقتصاد العالمي أمام محنة جديدة، تتمثل في سريان مفهوم الأزمة الأخطر في تاريخ النظام الاقتصادي الرأسمالي، المتمثلة بالركود التضخمي وهي الأزمة التي لم تجد حتى اللحظة حلولاً جذرية من قبل الاقتصادات كافة، رغم التباين والاختلاف في هياكل تلك الاقتصادات.
تختلف تداعيات غلاء الأسعار في الدول الغنية عنها في الدول الفقيرة، فهي أكثر تأثيراً وضرراً في حالة الاقتصادات الفقيرة التي تعاني من صعوبات اقتصادية وتراجعاً في أداء المؤشرات الاقتصادية الكلية، وأهمها ارتفاع معدلات البطالة والفقر، بالتزامن مع انعدام الدخول وتراجع حجم الإنفاق الحكومي، وعدم قدرة السياسات العامة على ضبط الأسعار وحماية المستهلكين والفعاليات الاقتصادية، إضافة لتفاقم حالة الركود الاقتصادي والذي أضحى من أكثر المعضلات التي تواجه الاقتصاد العالمي خصوصاً بعد تفشي جائحة كورونا منذ كانون الثاني(يناير) 2020، حيث أعلن خبراء في الأمم المتحدة أن التكاليف والاضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي قد تكلفه ما لا يقل عن تريليون دولار، في ظل تراجع النمو الاقتصادي العالمي، حيث تسببت تلك الجائحة في احداث حالة من الإغلاق الكبير، وتراجع حجم الإنتاج العالمي بفعل الانخفاض الحاد في نسب التشغيل، حيث تراجعت معدلات التوظيف على مستوى العالم بحوالي 114 مليون وظيفة مقارنة بالعام 2019، كذلك تراجعت نسبة المشاركة في القوى العاملة حول العالم بما يقارب 2.2%، وتراجع الإنتاج الصناعي، إضافة إلى آثارها على أسواق النقل والشحن بشتى أشكاله، وهذا ضاعف من حدة ارتفاع تكاليف الإنتاج، وتسبب بإحداث حالة من اللا استقرار اقتصادي، يظهر ذلك جلياً مع دعوة الحكومة الصينية للمواطنين الصينيين بتخزين الغذاء لمواجهة أي أزمة طارئة، رغم أن الصين تُنتج الغذاء بمعدلات نمو تفوق معدل نمو السكان، وهذا ينذر بإمكانية اندلاع أزمة عالمية، خصوصاً في حال نقص كميات وتوريد السلع الزراعية.
ومع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، فإن الاقتصاد العالمي سيواجه تحديات حقيقية لا تقل ضراوة وشدة عن تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة الإغلاق الكبير منذ بدايات العام 2020.
ماذا عن قطاع غزة؟
قطاع غزة لا يمكن أن يكون بمأمن من أية ارتفاعات في الأسعار، بُحكم أن الارتفاع في أسعار السلع الأساسية بات عالمياً، ونظراً لما يُمر به قطاع غزة من ظروف استثنائية, تتمثل في تسجيله لأعلى معدلات للبطالة والفقر على الصعيد العالمي، ومع تفاقم حالة الانقسام السياسي – السياسي، ومع حالة عدم الاستقرار الأمني، وتآكل الإنتاج المحلي، والناجم عن ندرة الموارد الاقتصادية وضعف القطاع الحكومي، وعدم قدرته على التدخل الاقتصادي المناسب، فإن للارتفاع غير المحدود في الأسعار تأثيرات وخيمة على الاقتصاد الفلسطيني وعلى الواقع المعيشي، حيث سيرافق ذلك المزيد من نسب التراجع في الأمن الغذائي، وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل، إضافة لاضطراب في الأسواق.
ورغم أن الارتفاع في الأسعار عالمي، إلا أن نسب الارتفاع في أسعار بعض السلع الأساسية في قطاع غزة يعتبر مرتفعاً أكثر من سواها، الأمر الذي يتطلب أن تتخذ الحكومة في قطاع غزة، إضافة للحكومة الفلسطينية في رام الله، سياسات علاجية لوقف نزيف الغلاء وحماية المستهلك, ورغم أن الحكومة في قطاع غزة قد أصدرت قراراً بإعفاء 9 سلع أساسية مستوردة من خلال الجانب المصري وهي: القمح، الطحين، السكر، الأرز، زيت السيرج، السمنة، الفول، العدس، الشعير، من كافة الرسوم الجمركية والضرائب وأذونات الاستيراد، إلا أن ذلك يُعتبر دون المستوى المطلوب، بفعل اقتصار التدخل الحكومي على إعفاء بعض السلع دون انتهاج سياسة مالية أكثر جدوى، كخفض الضرائب والرسوم على أسعار الكهرباء والتراخيص، إضافة لزيادة الإنفاق وتقدم الإعانات ومراقبة الأسعار، وإعداد قائمة سعرية موحدة يتم مراقبتها من قبل الجهات المختصة بحماية المستهلك ومباحث التموين.
كما أن جهود حكومة غزة تعتبر هامشية، خصوصاً في حال عدم اتخاذ السلطة الفلسطينية قراراً بتحمل أعباء القيمة المضافة على السلع الأساسية المستوردة من خلال المعابر الإسرائيلية، رغم أن تلك الضريبة تعتبر أساساً من أساسات بروتوكول باريس، الملحق الاقتصادي للاتفاق السياسي المعروف بأوسل. كما أن اقتصار التدخل الحكومي في غزة على إعفاء تسع سلع فقط ولمدة لا تتجاوز الشهرين، وعدم إيلاء أهمية لاتباع سياسة مالية توسعية تتمثل في إلغاء الضرائب وتكثيف الإنفاق الحكومي وتحمل تبعات الغلاء لحماية المستهلك, إضافة للبطء في اتخاذ قرارات جريئة كتحديد سقف سعري للسلع الأساسية والضرورية، الأمر الذي يتطلب إعادة قراءة من قبل القائمين على إدارة الاقتصاد في قطاع غزة.
في ضوء الأزمة المتفاقمة، ومع عدم جدوى سياسة الأجور المتبعة في قطاع غزة - حيث لا يزيد الأجر الشهري للعاملين كمتوسط عن 800 شيكل, وهذا الأجر منخفض مقارنة بالحد الأدنى للأجر والبالغ 1450 شيكل، والمقرر رفعه إلى 1880 شيكل بحلول يناير 2022, بينما في دولة الاحتلال فقد تم رفع الحد الأدنى للأجور من 5300 شيكل إلى 6000 شيكل_ فإن أي سوء إدارة للملف الاقتصادي والتعامل مع غلاء الأسعار، سيجعل غزة أكثر بؤساً، وسيزيد من حدة الأزمة المعيشية، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط دخل الفرد في إسرائيل يفوق متوسط دخل الفرد الفلسطيني بحدود 20 ضعفاً، و40 ضعفاً لمتوسط دخل الفلسطيني في قطاع غزة، وتأسيساً لذلك فإن هناك ضرورة لإتباع الإجراءات التالية:
1- يتوجب على السلطة الفلسطينية والحكومة في رام الله تحمل عبء القيمة المضافة على السلع الأساسية .
2- ضرورة أن تقوم السلطة بصرف رواتب كاملة للموظفين، وإضافة علاوة غلاء المعيشية ورفعها بما يتلاءم وحجم الارتفاع في مستوى الأسعار، إضافة لضرورة صرف مستحقات الحماية الاجتماعية.
3- ضرورة زيادة الإنفاق الحكومي، وتقديم تسهيلات للمنشآت الاقتصادية، وإعادة النظر بسياسة الأجور، وتطبيق الحد الأدنى للأجور ورفعه بما يتلاءم ومستويات المعيشة في قطاع غزة، واشتقاق الدروس من دولة الاحتلال التي رفعت الحد الأدنى للأجور بنسبة زادت عن 13%.
4- على حكومة غزة تحمل أعباء الغلاء، وعدم الاقتصار على إعفاء تسع سلع, الأمر يتطلب من الحكومة مراقبة الأسعار، وتحديد سقف سعري للسلع الأساسية والضرورية، ورد الاعتبار للاقتصاد الإنتاجي على حساب الاقتصاد الربحي.
وختاماً؛ لقد أثبتت أزمة الغذاء والارتفاع المفرط في أسعار السلع الأساسية، أن هناك ضرورة لتدشين قطاع عام منتج، يناط به استيراد وإنتاج وتسويق المواد الغذائية، باعتبارها من السلع الأساسية وعماد للأمن والاستقرار المحلي, والتي يؤدي نقصها أو ارتفاع أسعارها إلى خلق حالة من الاستياء وعدم الرضا وخلق أجواء محتقنة في أوساط المواطنين، وترك آثاراً وخيمة على الواقع المعيشي في قطاع غزة