لم يعد هناك الكثير مما يقال في ملف الانقسام الأبدي بعد كل هذا التبلد لسنوات طويلة أحدثت ما يكفي من عوامل التعرية للقضية الفلسطينية، وبعد كل ما حدث ويحدث مازال الفلسطينيون يراقبون السكاكين التي تطعنهم باندهاشة غريبة، ما حصل ويحصل لا يمكن أن يصدق لقضية يجني عليها أبناؤها وينكلون فيها الى هذا الحد، وفيما أن هناك فرصاً يمكن التقاطها فإن آلافاً مثلها تضيع في سياق التنافس بين أكبر كتلتين فلسطينيتين لم تستطيعا حتى اللحظة إيجاد كلمة سر الوحدة كأنها لغز أصعب عليهم من فك طلاسمه.
لا شيء يدعو للفرح لدينا، أزمة في الضفة وأزمات في غزة وتخوفات باتت تسكن الحكم الفلسطيني في المنطقتين، وتغلق اسرائيل أبواب الأمل أمام النظام السياسي الفلسطيني، أما غزة التي فقدت توازنها منذ خمسة عشر عاماً في حصار مطول ها هي تتلقى ضربة جديدة من بريطانيا بتصنيف «حماس» منظمة ارهابية ويبقى كلُّ يتلقى بما سمحت به عوامل الوهن الداخلي والرياح العاتية التي تتقاذف المركب المثقوب بفعل صراع أبنائه على الوهم الذي انتهى بهم نحو تأمين الرواتب وتلك أصبحت الشغل الشاغل لقضية ملأت الكون.
هل تذكرون إسرائيل التسعينات؟ عندما بدأت عملية التسوية كان الاحتلال يعلق تقدم المسار بحجة جمع الأسلحة التي اخترعها ولم يتمكن من جمعها، وهذا استمر لسنوات، ثم علق المسار بسبب تعديل المناهج الدراسية، والآن على رواتب الشهداء والأسرى، وسيظل يجد مبرراته التي لا تنتهي فيما يستمر بمشروعه المزدوج « لفظ غزة وابتلاع الضفة» هذا المشروع القديم الجديد فلنراقب الى أين وصل؟
في ذروة الأزمات لم نعد نرى القضايا الكبرى، لكن حقيقة الواقع أن غزة أصبحت كياناً خاصاً تحكمه حركة حماس وتخوض مفاوضاتها وحدها، والضفة يجري التهامها يومياً، فماذا تبقى كي يحافظ الفلسطينيون على هذا الانقسام كأنه منجز وطني.
عانت منظمة التحرير طويلاً من العبث الإسرائيلي في المفاوضات وغيرها ولا تزال، فيما «حماس» تبدأ التجربة معتقدة أن الأمر كان يتعلق بكفاءة المفاوض، لا بموازين قوى ولا بالإقليم ولا البعد الدولي ولا بالمناخات السياسية العالمية، وهذا ما أوصل الأمور الى تلك النهايات في غزة، الحسابات الخاطئة والتي حاولت تعديلها والتأقلم مع الشروط الدولية في الوثيقة المعدلة على دستورها. ولكن غول المطالب الإسرائيلية لن يتوقف وهو يطلب المستحيل ويحرض العالم، فمن قال إنه يريد حماس عاقلة؟ هو يريدها تماماً كما هي ومصنفة كمنظمة إرهابية تعفيه من الحل السياسي والمفاوضات التي باتت تل أبيب تعلن أنها لا تريدها مطلقاً.
أمدت حركة حماس إسرائيل ما يكفي من الوقود لإيقاعها. ومن يراقب بعض تصريحات قادتها التي تسلح إسرائيل بما يحرض العالم عليها حين يعتقد أحدهم أنه يخطب في مسجد يقول ما يشاء. ولنا تجربة بالتصريحات الساذجة بداية «كورونا» باعتبارها «جاءت عقاباً لبلاد الكفار» اتذكرون هذا النمط وكيف ينسحب على السياسة؟ وهكذا ولا يدرك أن العالم يراقب ويتابع وأن اسرائيل تخصص من يرصد ويسجل كل كلمة وهمسة ومقطع وتعيد إرساله للعالم لإثبات أنها منظمة إرهابية، فالسياسة هي ابنة الدهاء وليست مهنة الدراويش في عالم شديد المكر.
هنا جاء التصنيف البريطاني لحركة حماس وليس فقط جناحها المسلح، وبالتأكيد قدمت إسرائيل كثيراً من الأشرطة والتسجيلات لتصريحات بعض قادة حماس وبضمنها طبعاً مؤتمر وعد الآخرة الذي يتحدث عما يشبه إبادة إسرائيل. بالتأكيد يصاب العالم باندهاشة تدفع وحدها حركة حماس ثمنها وتضع المدافعين عنها في موقف شديد الضعف وتجردهم من أي سلاح للدفاع عنها، رغم أن القرار البريطاني يخلو من العدالة حين لا يوجه حتى أي ملاحظة نقدية لدولة محتلة وتمنع شعباً آخر من حقه في الحياة وتقرير المصير، بل وتبني مستوطنات داخل أرضه، فأي عدالة تلك؟
لا يمكن فصل القرار البريطاني عن صدمة إسرائيل بالتحرك الشعبي في كبرى المدن البريطانية خلال أيار الماضي في دولة هي من أقامت اسرائيل، لأن رفع الغطاء عنها في هذه الدولة يعني الكثير، إذ ستحذو حذوها دول كثيرة. وهنا كان التركيز الإسرائيلي على بريطانيا دون غيرها لتتمكن ربما من تقديم معلومات استخباراتية مضللة وتصريحات حقيقية للهواة في حماس لتقرر الحكومة البريطانية تصنيفها كمنظمة ارهابية رغم أن لا عملية واحدة لحماس خارج فلسطين.
وباعتبار الاسرائيلي هو من بادر وهو من حرض ودفع الحكومة البريطانية، وهذا ليس سراً فهو يفاخر بذلك، فالسؤال هو ما الذي يريده الاسرائيلي من حركة حماس؟ هل يريد انهاء حكمها في غزة؟ حتى نفهم مغزى تحريضه لبريطانيا ودفعها لأن تصنف حماس؟ بالتأكيد لا، وليس في وارد إنهاء حكمها، فهو من يشرف على إدخال الأموال بل والبحث عن تمويل لها وهذا بدأه نتنياهو ويستمر به ليبرمان وبينيت.
ما تريده إسرائيل من حماس هو أن تعيش حماس تحت سيف التخويف، أن تبقى في غزة وتستجيب للشروط الإسرائيلية. إسرائيل لديها مشروعها بإخراج غزة وفصلها وهي تطهو مشروعها على نار هادئة وقودها معاناة الناس وآلامها، غزة التي أنتجت الوطنية الفلسطينية ومشروع التحرر يجب أن تخرج تماماً من معادلة الصراع وهذا لم يعد خافياً. ومنذ سنوات تفتح اسرائيل مفاوضات مع حماس غير مباشرة حول تهدئة طويلة، وفي كل مرة تجس نبض حماس وتكتشف أنها لم تتأهل بعد تعود باجراءات عقابية وحروب وتخويف وتصنيف وتحريض وصولاً لما تريد. فلا تعدم اسرائيل الوسائل ولديها من الوقت ما يجعلها تتمهل حتى ينضج الطرف الفلسطيني.
هذا التحريض لبريطانيا وما تقول أنه معلومات ليس منفصلاً عن مشروع تخويف حماس لقبولها بطي صفحة غزة واخراجه من المعادلة. هذا ما ينبغي أن تدركه حركة حماس وما يجب أن تتصرف وفقاً له بشكل مغاير هناك فرصة، فالتجربة أثبتت أن الإسرائيلي لديه ما يكفي من الوقت حتى لو احتاج لعقود فيما الوقت شديد التكلفة على الفلسطينيين. وإذا كان لا بد من دفع ثمن فالأفضل بالتفاهم الداخلي، لأن أي تكلفة حينها ستكون مكسباً للقضية وللفلسطينيين جميعاً، والى حينها على حركة حماس أن توقف هواة السياسة الذين يوترون الساحة الداخلية بتصريحاتهم ويستدعون التحريض من الخارج، أن توقفهم عن الكلام...!!!!