التسوية السلمية، تعني التنمية السلمية للنزاع والإقلال من التوجه نحو الحرب, والبعض يراها بأنها تعني التفاوض, وهذا الأخير يعني المرونة وتقديم التنازلات من قِبل الأطراف المعنية بالنزاع للوصول إلى حل وسط, وهو ما ينطبق على النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بمختلف محاوره.
إنهاء النزاع يعني التفاوض المباشر والاعتراف المتبادل وإزالة كل مظاهر النزاع, والحديث عن العيش بسلام, وما تشمله هذه العملية من جهوداً دبلوماسية تسعى للتوفيق بين أطراف النزاع, فالحل يكمن في قانون التوازن, والخلل في هذا التوازن يؤدي بطرف إلى فرض إرادته وهيمنته على الطرف الأخر, وهذا تماماً ما ينطبق على الحالة الفلسطينية.
اختلال توازن القوى بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي يفرض على عملية "التسوية" التهدئة المطروحة أن تعاني من اختلال تُقدم فيه مصالح طرف على طرف آخر أو تكون الحلول المطروحة منحازة للطرف الأقوى, فالطرف الفلسطيني على علاته قاوم وانتفض وتطور وأصبح أكثر قدرة على مقاومة أعتى قوة على وجه الأرض "الإسرائيليين" كما يدعون, ولكن رُغم ذلك لم يتمكنوا حتى الآن من الوصول للقدرة الإسرائيلية على المساومة والتفاوض الذي لطالما يطرح وينفذ ما يريد عدا عن الدعم الأمريكي الذي يجعلهم أكثر قوة وثباتاً على فرض آراءهم وقراراتهم.
لاشك أن اتفاق التهدئة الدائر بين "حماس" والإسرائيليين بوساطات إقليمية ودولية يجعل الناظر لبنودها من الوهلة الأولى على أنها منصفة للفلسطينيين وأن ما على "حماس" إلا قبولها على علاتها وأن تتعالى على ما تعانيه داخل القطاع وكان آخرها ضرب موقع يتبع للمقاومة راح ضحيتها شهيدان من كتائب القسام, مما يجعل الدائرة عليها تضيق, فهي في وضع لا يمكنها إلقاء الحلول جانباً وخوض حرب, وضرب الموقع أمس لم يكن لتذكيرها بقوة إسرائيل وقدرتها على لجم حماس في كل وقت, أكثر مما كانت ضغط على حماس للتسريع والقبول بالحلول الإنسانية المطروحة برؤية إسرائيلية.
لا يمكن إنكار إصرار حماس على البقاء في الحكم داخل القطاع بالرغم من قسوة الحصار واستحالة الحياة, وعدم قدرتها على إيجاد نموذج إيجابي مقبول للحكم, يُضاف لها انعدام قدرتها على توفير الحد الأدنى للمعيشة الإنسانية لمليونين من سكان القطاع, فلا يمكن غض الطرف عن أنها وجدت في المسيرة مخرج وبالتالي تمكنت من استثمارها لتحقيق مكاسب سياسية تخدم سكان القطاع, فكان من مسيرة العودة وإطلاق البالونات الحارقة التي استنزفت الإسرائيليين وأرهقتهم, دافعاً قوياً للخوض في مفاوضات مع الفلسطينيين بوساطات إقليمية ودولية.
قيام الحكومة الاسرائيلية بتأجيل اتخاذ القرار بموضوع التهدئة ومطالبتها بضرورة أن يشمل الاتفاق عودة السلطة الفلسطينية بعد التراشق الإعلامي الذي حصل بين حماس وفتح, يشير بأن الأحبال الإسرائيلية غير متزنة, فمن جهة الاتفاق يفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية ويجعل منها كأنها دولة تدار بقيادة حماس بعيداً عن الممثل الشرعي الوحيد لها الذي تم تهميشه في بداية طرح بنود الاتفاق, ثم اتخاذ قرار التعديل بدمج السلطة في أي اتفاق يعني أن إسرائيل تحاول التخلص من "حماس" وذلك من أجل إطاحة سقف المطالب الفلسطينية التي أكدت عليها "حماس" بحيثُ يتم دمجها بالسلطة ومن ثم يتم التفاوض مع السلطة على اعتبار أنها تملك زمام الأمور وبالتالي تقضي على مطالب الفلسطينيين هذا جانب, أما الجانب الآخر لهذا التأجيل فيرجع إلى وجود خلافات داخل اليمين المتطرف بالتالي لن يتم الإعلان عن اتفاق قبل موافق الجمع اليميني وقبل قياس كل أبعاد الاتفاق بحيث لا تترك أي ثغرة من الممكن أن تنفذ منها حماس, وخاصة موضوع الأسرى الذي رفضت حماس مناقشته منذ إعلان إسرائيل عن رغبتها في مناقشته كأول الملفات على اعتبار أنه من الملفات الحساسة التي يجب التفرد فيها, فما كان منها إلا أن تنازلت عن بعض الشروط حتى تتمكن من إنجاحها أملاً في إنهاء كابوس غزة.
لا يمكن التغاضي عن موضوع المصالحة الفلسطينية الذي أنهك مصر ولكنها ما زالت على قدمٍ وساق لإنجاحها رغم كل الثغرات التي حدثت بين الطرفين في الفترة الماضية, فانشغال حماس في التهدئة وموافقتها على الورقة المصرية الجديدة التي أرضت قيادة حركة "فتح", هو أمر يحسب لها فهي لم تتخلى عن رغبتها في وحدة وطنية حتى لو كانت تنازلاتها أكبر, هذا لا ينفي أنها أيضاً حائرة, فقد وقعت بين نيران هل عليها القبول بالتهدئة الذي يمكنها من نقل قطاع غزة إلى وضع أفضل يضمن بقاءها في الحكم مع التأييد الشعبي لها؟ , أم هل عليها رفض موضوع التهدئة والقبول بالمصالحة التي تحد من قوتها داخل القطاع؟, وبالتالي فالفصل بين التهدئة والمصالحة ليس يجعلها خائرة القوى فتحقيق جانب سيكون على حساب جانب أخر.
وبالتالي هي في حالة تدفعها على اللجوء لكفة الميزان, بمعنى أي الحلول أكثر إفادة للقطاع, حيثُ أن ما يتضمنه اتفاق التهدئة وقف نار لخمس سنوات (مع خيار التمديد)، ووقف الأعمال العدائية بين غزة واسرائيل، إزالة الحواجز الاقتصادية عن القطاع، جلب متبرعين يمولون المال والكهرباء للقطاع وإعادة بناء البنية التحتية والمنازل المدمرة. في المرحلة التالية إقامة ميناء في الاسماعيلية ومطار في سيناء. وفي المرحلة الأخيرة صفقة تبادل للأسرى والمفقودين (الطرفان غير راضيين عن هذه الصيغة). فهذا الاتفاق بهذه الصيغة بين حماس وإسرائيل يعني التعامل مع غزة على أنها كيان منفصل بعيد كل البعد عن الضفة الغربية, فهذا دليل أول على أن في حال تم الموافقة على التهدئة من حماس وهذا المرجح في الفترة الحالية طالما لم يطرأ أمر نوعي يغير قواعد المعادلة, الزج بالمصالحة إلى نقطة أبعد.
في النهاية لا يمكن فصل ما يدور الآن عن الصفقة, فالتعامل مع غزة ككيان منفصل والحلول الإنسانية المطروحة من خلال اتفاق تهدئة لا يمكن أن يكون إلا خدمة للمصالح الاسرائيلية والأمريكية, فما علينا نحن الفلسطينيين الآن فعله هو الاتحاد والزج بالاعتبارات الفصائلية بعيداً لنستطيع الوقوف في وجه المؤامرات المحاكة ضدنا, وأن ندرك رغم الحلول المطروحة الآن فإن كل الخيارات مفتوحة, وفي لحظة يمكن لكل شيء أن يصبح رماد, وتنحدر
الأوضاع إلى ما هو أسوء.