ان الثورة الفلسطينية هي جزء لا يتجزأ من الحركة الثورية العالمية، وجزء أساسي من الحضارة الإنسانية، وتعتبر قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي معلماً أساسياً من معالم القضية الفلسطينية، وجزءاً لا يتجزأ من هموم الشعب الفلسطيني، وعنواناً بارزاً في تاريخه النضالي، باعتبار قطاع الأسرى واحداً من أهم قطاعات الحركة الوطنية الفلسطينية.
لذا فقد أصبح للأسير الفلسطيني منزلة كبيرة في وجدان شعبه وأمتهم، لما يمثله من قيمة معنوية ونضالية. كما غدا نموذجاً يُحتذى في مقاومة المحتل.
أما دولة الاحتلال الإسرائيلي، فإنها تعتبرهم مجرد أفراد منحرفين وقتلة، وتعتبر سجنهم انتقاما يستحقونه. وهذا ناتج عن نظرة اسرائيلية عنصرية لا ترى في الفلسطينيين سوى مخربين،لا يستحقون الحياة أو حتى المعاملة الإنسانية التي فرضها القانون الدولي.
فلقد قُمع الأسرى طويلا ومرات لا تحصى، وعانوا أشكالا متعددة من الإذلال والإهانة، وظلت السجون الإسرائيلية دوماً -ومنذ لحظة إنشائها- وسائل عقابية قاهرة لأجساد الأسرى الفلسطينيين ونفوسهم، وإلحاق الأذى المتعمد بهم، ومكاناً للتأثير على أفكارهم ومعتقداتهم، وأداة للقتل المعنوي والتصفية الجسدية التدريجية والبطيئة. وما ذاك إلا لأن سلطات الاحتلال ترى في الفلسطينيين أعداء لها، يجب التخلص منهم، أو على الأقل ردعهم بكل الوسائل الممكنة.
وما من شك بأن هذا السلوك الشاذ، ليس هو ما ولد المقاومة لدى الفلسطينيين، بل أن الاحتلال وأساس وجوده في فلسطين هو المصدر الأصيل لكل تفكير في المقاومة. وقد فكر الفلسطينيون بالمقاومة منذ ما قبل إنشاء السجون الإسرائيلية، وقادوا أشرس عمليات المواجهة مع جنود الاحتلال. كما وأن المقاومة المسلحة التي انطلقت في فلسطين، كانت قد انطلقت قبل أن تسجن إسرائيل فلسطينيا واحداً. لكن بالتأكيد فإن معاناة الأسرى في السجون من محاولات محو هويتهم والإساءة لمكانتهم وتشويه كفاحهم، أو السيطرة على وعيهم والتعمد بإذلالهم وايذائهم، قد أنشأت لديهم دافعا كفاحياً إضافياً، هو دافع مواجهة السجانين الإسرائيليين بما يؤلمهم ويفضح ممارساتهم، وبما يُحافظ على انسانية الإنسان الفلسطيني وجوهره.
من هنا يتبين لنا أن ثقافة الهيمنة، التي سعت إدارة السجون الإسرائيلية إلى فرضها على أرواح الأسرى، قد أنتجت رد فعل عكسي تماما تمثل بثقافة مضادة ومقاوِمة، وأن تلك الثقافة واصلت تطورها وتجذرها، بفعل تراكم الخبرات. فرّص الأسرى صفوفهم، ووحدوا جهودهم، ونظموا علاقاتهم الداخلية، بما أثار إعجابا مكتوما لدى عدوهم.
وهكذا غدا السجن ساحة أخرى من ساحات الاشتباك والمواجهة، بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهكذا تحول السجن الإسرائيلي- على أيدي هؤلاء الأبطال - من مؤسسة هيمنة، إلى مؤسسة وطنية مقاومة، تحافظ على إنسانية الإنسان، وتعزز من انتمائه الوطني والقومي. وما كان لذلك أن يتأتى دون خوض هذه الرحلة الطويلة من العذابات والإضرابات عن الطعام والمواجهات المختلفة خلف قضبان السجون.
لقد اتسم نضال الحركة الأسيرة، في المراحل المختلفة، بالطابع السلمي: حيث لا يملك المعتقلون سوى الإرادة والعزيمة. ولقد أنتج هذا السلاح مجموعة متزايدة من الاحتجاجات السلمية، والإضرابات عن الطعام، وفي بعض الأحيان القليلة مواجهات عنيفة، سرعان ما كانت تنتهي.
إذن فالمواجهات السلمية كانت هي الغالبة في كل المراحل. ولعل الإضراب عن الطعام هو الأبرز من بين الأشكال النضالية، التي لجأ إليها الأسرى، لانتزاع الحقوق الأساسية الخاصة بالفرد أو الجماعة. حيث كان عنوانها الأبرز دائما: نعم لآلام الجوع. ولا لآلام الركوع.
لقد قيل منذ القدم أن الجوع كافر، لكن هناك مِن الفلسطينيين مَن جعلوا من الجوع ثائراً خلف قضبان سجون الاحتلال الإسرائيلي، فثاروا مراراً، وخاضوا "الإضراب عن الطعام" مئات المرات، واستطاعوا بفعل ذلك انتزاع الكثير من حقوقهم المسلوبة وتغيير واقعهم نحو الأفضل، على قاعدة أن الحق يُنتزع ولا يُوهب، وأن مقاومة المحتل حق وواجب، داخل وخارج السجون، وأن "الإضراب عن الطعام" شكل من أشكال المواجهة ويجسد ثقافة المقاومة السلمية داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويُعتبر امتدادا طبيعيا لحالة الاشتباك اليومي والمواجهة المباشرة مع الاحتلال خارج السجون.
لقد أدرك الأسرى الفلسطينيون مبكرا، أهمية مواجهة سجانيهم، فلجأوا إلى الإضرابات المفتوحة عن الطعام، رغم علمهم بأنها قد تؤدي إلى تدهور صحتهم، أو حتى في بعض الحالات إلى الموت، إلا أنهم واصلوا إضراباتهم كخيار لا بديل عنه، كلما شعروا بفشل الوسائل الأخرى الأقل ألما وضرراً. لذا لم يكن الإضراب عن الطعام غايةً، بل بات الخيار الأخير غير المفضل، الذي يلجأ إليه الأسرى.
نعم، لم يكن الإضراب عن الطعام يوماً هو الخيار الأول أمام الأسرى، كما لم يكن هو الخيار المفضل لديهم، وليس هو الأسهل والأقل ألماً ووجعاً، وإنما هو الخيار الأخير وغير المفضل، وهو الأشد إيلاماً والأكثر وجعاً، فهم لا يهوون تجويع أنفسهم ولا يرغبون في إيذاء أجسادهم، كما لا يرغبون في أن يسقط منهم شهداء في السجون.
لكنهم يلجؤون لهذا الخيار مضطرين ورغما عنهم، ذوداً عن كرامتهم، ورفضا لمحاولات إذلالهم وتجسيداً لثقافة المقاومة في انتزاع الحقوق المسلوبة، ودفاعاً عن مكانتهم ومشروعية مقاومتهم للمحتل.
وبناءً على ذلك فلقد خاض الأسرى منذ عام 1967 عشرات الإضرابات الجماعية عن الطعام، وكان سجن عسقلان شهد في تموز/يوليوعام 1970 أول إضراب جماعي منظم يخوضه الأسرى، واستشهد خلاله الأسير "عبد القادر أبو الفحم" الذي يُعتبر أول شهداء الإضرابات عن الطعام.
وبالرغم من أن اضرابات عدة سبقته، إلا أن هذا الإضراب يُعتبر أول إضراب جماعي ومنظم عن الطعام. وقد أحدث هذا الإضراب وهذه الشهادة تأثيراً كبيراً على واقع الحركة الأسيرة فيما بعد، وشكّل حافزاً للأسرى للاستمرار على ذات النهج، فتوالت الإضرابات بعد ذلك في إطار الصراع الدائرة رحاه في ساحات السجون كافة، وقدم خلالها الأسرى تضحيات جساماً وسقط من بينهم العديد من الشهداء أمثال: أبو الفحم وراسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحق مراغة وحسين عبيدات.
لقد اعتمدت الحركة الأسيرة على وحدتها ووحدة موقفها في مواجهة السجان، وأن الإضرابات الشاملة والمفتوحة عن الطعام، لا تستطيع أن تقوم بمنأى عن ثقافة جماعية، هي العنصر الرئيسي في حسم المعركة وتحقيق الانتصار.
ولكن خلال السنوات القليلة الماضية بدأنا نرى في السجون أسرى يخوضون إضرابات فردية بمنأى عن الجماعة، كشكل نضالي فرضته أسباب ذاتية وموضوعية. إلا أنه وبالمقاييس السابقة يُعتبر شكلاً نضالياً جديداً نُقدره ونحترمه وندعمه.
وكثيرون هم الأسرى الذين أشهروا سلاح الأمعاء الخاوية في وجه السجان وخاضوا إضرابات فردية عن الطعام لأيام وشهور طويلة، أمثال: خضر عدنان، هناء شلبي، أيمن الشراونة، سامر العيساوي، بلال كايد، سامي جنازرة، ثائر حلاحلة، محمد القيق، محمود السرسك، وغيرهم، وما يزال هناك عدد من الأسرى يخوضون اضرابا عن الطعام ضد "الاعتقال الإداري"، وهؤلاء وغيرهم أحدثوا حراكا نضاليا داخل السجون وسلطوا الضوء على ملفات مهمة، ولعل غالبيها العظمى كانت ضد سياسة "الاعتقال الإداري"، وشكّلت بمجموعها امتداداً طبيعياً للثورة على الاحتلال وتجسيداً حقيقياً لثقافة المقاومة خلف قضبان سجون الاحتلال. وأن جميع من خاضوا الإضرابات الجماعية والفردية شكّلوا نماذجاً مشرقة في المواجهة والتحدي، وسطّروا حالات نضالية فريدة ومتميزة في التضحية.
لقد كنا ومازلنا نرى بأننا صوتاً للأسرى والمحررين، وقضاياهم المتعددة وملفاتهم المختلفة، لذا لم ندخر جهدا إلا وبذلناه، وقدمنا كل الدعم والإسناد للمضربين عن الطعام، وسنقف دائما وأبدا وبكل طاقاتنا وامكانياتنا بجانب هذه الشريحة المناضلة وسنواصل دفاعنا عن حقوقهم وصولا لحريتهم المنشودة.
وفي حال قرر الأسرى بشكل جماعي أو فرادى مواجهة السجان واشهار سلاح الإضراب عن الطعام، فإننا وبدون تردد سنكون كما عاهدناهم دائما سندا لهم ولن نتخلى عنهم، فمعركتهم هي معركتنا جميعا، وانتصارهم يشكل انتصارا للحق الفلسطيني وكفاحه المشروع.