لم يكن ينقص حكومة نفتالي بينيت، التي تم تركيبها صناعيا بمساعدة الأميركيين لقطع الطريق على بنيامين نتنياهو، انسحاب عوديت سيلمان من الائتلاف، لم يكن ينقصها رجة أمنية من فلسطيني يخرج من جنين ويحدث لها هذه الصدمة التي تستكمل ضربها، وإذا كانت عيديت سيلمان أطلقت رصاصة على قدم الحكومة فإن ما فعله رعد فتحي هو إطلاق الرصاص على بطن هذه الحكومة.
في اللقاءات التي عقدها رئيس الحكومة الهاوي الذي يتكئ على تسعة مقاعد لم تكن في أزمنة سابقة في أي ائتلاف تمكنه من الحصول على وزارة سيادية، لكنه كان يتصرف كواحد من قادة التاريخ مثل نابليون أو ونستون تشرشل، اعترف بأنه سخر كل جهوده للخارج ولم يعط ما يكفي من الوقت للاهتمام ببيته الداخلي الهش. فالحكومة ستسقط من الحزب الحاكم وليس من الائتلاف أو المعارضة، فقد ذهب الرجل ليكون وسيطا لحرب أكبر من وزنه ووزن دولته بكثير وانتشر مقلدا نتنياهو في رحلة التطبيع الإقليمية ليزور العواصم وليعقد القمم. ويبدو أن غروره الزائد يوم أن وقف بستة مقاعد مطالبا برئاسة الحكومة هو ما سيخرجه من الحياة السياسية. فلو قبل أن ينضم لحكومة بزعامة لابيد ثم سقطت لكان لديه متسع للمنافسة في أي انتخابات والعودة، لكن بعد هذه الهزات أغلب الظن أنه في طريقه للنهاية. هكذا فعل التاريخ بكل الذين أصيبوا بجنون العظمة مثله.
جاءت العملية الأخيرة بينما بدأت ساق الحكومة بالعرج والتي لم يكن يبق لديها ما يكفي من الوقود للاستمرار وفي أحسن أحوالها ثمانية أشهر، ستسير متكئة على عكازات ضعيفة تحول دون إقرار أي مشاريع جدية بما أشبه بحكومة تيسير أعمال هشة، حتى لو استمرت بهذا التعادل بنصف أعضاء الكنيست ستأتي لحظتها الحرجة يوم إقرار الموازنة في كانون الأول والذي لن يتم لأن مؤهلها البرلماني لأن تحصل على بطاقة المرور عبره أقل من المطلوب، ليكون الحل التلقائي للحكومة الذهاب للانتخابات المبكرة بعد ثلاثة أشهر.
هذا أفضل سيناريو يتمناه بينيت وهو سيناريو سيئ بالقطع ولكن هناك ما هو أسوأ وهو أن تسقط الحكومة بصورة أسرع أو أن يعاد تشكيل حكومة بلا نفتالي بينيت.
سلسلة الضربات الأخيرة التي حلت على المدن الاسرائيلية كانت كأنها تعيد صياغة اللحظة ومناخاتها التي اعترف ضمنا رئيس الحكومة الاسرائيلية بها بعد أن كان محلقا في فضاءات وأولويات أخرى متجاوزا أو متجاهلا القصة الأبرز وهي القصة الفلسطينية، معتقدا أن غبار قفزاته الهوائية نحو موسكو كوسيط سلام أو نحو عواصم إقليمية يمكن أن يغطي على وهجها ليرتطم بالحقيقة التي حاول مثل أسلافه القفز عنها ولكن خشبة الحصان أكثر صلابة بكثير من أوهام السياسة.
الحقائق تحطم الأوهام. كانت تلك الحقائق تتكرس على الأرض ولكن ما جدواها لدى حكومة رئيس وزراء تتلبسه العظمة حد الإنكار التام وإن كانت المؤسسة الأمنية أصدرت ما يكفي من التحذيرات لأن مجساتها كانت تستشعر ما هو قادم. لكن الحكومة ورئيسها كانا يحاولان الاعتقاد أن جرعات التهدئة تكفي لعلاج سرطان الاحتلال الذي ينتشر على شكل بثور استيطانية سيطرت على الجسد وأن تغطية هذا الجسد بلقاءات إقليمية يمكن أن توقف زحف مرض الاحتلال.
كانت العملية الأخيرة صادمة لدولة ذهبت بعيدا في الوهم فقد أسقطت صفقة القرن التي كانت تسير وقائعها وتتجسد بالسلام الاقتصادي للفلسطينيين، أسقطت ذلك السلام الذي كان يتحضر بديلا عن الاتفاق والتسوية وقالت، إن تلك المعالجات الموضعية يمكن أن تتم مع السياسة الفلسطينية لكنها لن تتم مع الشعب الفلسطيني لأن له المقولة النهائية في حركة السياسة.
لقد ثبت أن الشعب كما كان يقول مرشده الأول ياسر عرفات «يسبق قيادته» وفيما كان يتم الاستعداد لتقديم تهدئات في ظل استيطان وحصار وحواجز واقتحامات وتغييب لحل سياسي بمقابل فتات، كان الشعب يأخذ زمام مبادرة بعيدا عن كل تلك المقايضات الساذجة ويثبت بالدليل الملموس أن تشكل سلطة وحكم الفلسطيني لنفسه تحت الاحتلال هو قيد على الفلسطيني. وإذا كان من نفذ العملية قد وجه ضربة كبيرة للسياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين فإنه في ذات السياق وجه ضربة لا تقل للفصائل والسلطة.
من الصعب الحديث عن فعل أميركي بفقدان حكومة بينيت تفوقها البرلماني بعد انتهازيتها المفرطة في الحرب الروسية، فليس هناك ما يكفي من الدلائل ولكن من يعرف الدور الأميركي في تركيب وفك الحكومات في إسرائيل يضع هذا كعامل لا ينبغي استبعاده. فأميركا تعرف كيف تلقن درسها لأي حكومة تخرج عن الخط المرسوم. لكن سيكتب التاريخ أن رعد فتحي من مخيم جنين كان له الدور بإسقاطها أو إحداث صدمة الإفاقة لهذه الحكومة ولكن بعد فوات الأوان، هذا هو درس التاريخ لمن لا يجيد قراءة اللحظة ولا يلتقطها تماما في وقتها.