في الخامس عشر من أيار كل عام يحي شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات ذكرى اليمة حلت به عام 1948 وما زال شعبنا يئن تحت وطأتها المؤلمة حتى يومنا هذا ، إنها ذكرى المؤامرة الكبرى "النكبة" التي تعرض لها الشعب الفلسطيني قبل 74 عاماً حيث أقتلع من أرضه في أوسع وأبشع عملية تطهير عرقي في العصر الحديث، حينما اكتملت فصول مؤامرة العصر التي حاكتها العصابات الصهيونية بالتواطؤ مع الامبريالية العالمية ممثلة في بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين في حينه ففي تلك الأيام السوداء التي تحل ذكراها هذه الايام تمكنت العصابات الصهيونية بمساندة ودعم بريطانيا والدول الامبريالية الصاعدة آنذاك ليس فقط بسرقة "أرض بلا شعب كما كانوا يدعون"، بل سرقوا دولة كانت قائمة بمؤسساتها المختلفة على الأرض وشعبها يعيش في أمن وسلام يسعى لاستقلاله أسوة بالشعوب المجاورة التي تحقق لها ما أرادت ونالت استقلالها .
اليوم ونحن نحيي ذكرى النكبة لا بد لنا من تسليط الضوء مجدداً على ما وصلت له العديد من مراكز الأبحاث والدراسات التي تناولت قضية النكبة وأشارت في كل ما صدر عنها من ابحاث أن العصابات الصهيونية قامت مدعومة من بريطانيا بسرقة وطن وطردت أصحابه في أوسع عملية تطهير عرقي منذ الحرب العالمية الثانية، حيث سَطت هذه العصابات على دولة الشعب الفلسطيني التي كانت قائمة بالفعل وخاضعة في حينه للانتداب البريطاني الذي خالف ما جاء في نص صك الانتداب بضرورة مساعدة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحرمه من حقه في الاستقلال أسوة بشعوب البلدان المجاورة التي كانت خاضعة لانتداب مماثل آنذاك، ولم يقتصر دور بريطانيا على التآمر والتواطؤ هذا فحسب بل تعاونت مع الحركة الصهيونية عملاً بوعد وزير خارجيتها اللورد بلفور المشئوم ووفرت كل فرص وعوامل النجاح لذلك الوعد البائس ، بدءاً من توفير السلاح والعتاد وصولاً لإقامة عشرات معسكرات التدريب للمجندين اليهود وتسهيلها لحركة الهجرة واستيعاب عشرات الألوف من اليهود في العالم وإسكانهم في فلسطين، وفي ذات الوقت مارست كل أشكال البطش والعنف الوحشي ضد أصحاب الأرض الحقيقيين وحرمتهم من اي وسيلة للدفاع عن حقوقهم في مواجهة الخطر الداهم الذي كان يتصاعد أمام ناظريهم يقاومونه بشجاعة نادرة في محاولة لمنع الحركة الصهيونية من تحقيق أهدافها، لكنها تمكنت بكل اسف من النجاح في تحقيق مشروعها باغتصاب وطن وتهجير اصحابه الذين غدوا لاجئين بفعل نكبة مؤلمة تركت جرحاً غائراً ما زال يقطر دماً حتى يومنا هذا ، اليوم مرة اخرة وفي ذكرى النكبة نجدد التأكيد بأن فلسطين لم تكن "ارضاً بلا شعب لشعب بلا ارض" كما يدعون بل كانت بلاداً عامرة ضمت حتى العام 1945 ألف وثلاثمائة تجمع بين قرية ومدينة وبلدة يتجاوز عدد سكان معظمها الآلاف بينما لم يكن للصهاينة حتى ذلك إلا بضع مستعمرات متناثرة يسكنها بضع مئات نجحوا بإقامتها بالتواطؤ والتزوير البريطاني وتسهيلاته المكشوفة التي اوصلت بأعداد اليهود لاحقا لعدة آلاف من شتى أصقاع الأرض الذين برعاية الجيش البريطاني وتدريباته عصابات الارغون وشتيرن والهاغانا التي قامت في وقت لاحق بشن حربا وحشية وحملات إبادة وتطهير عرقي ضد الشعب الفلسطيني إلى أن تمكنت في منتصف أيار عام 1948 من سرقة الوطن وتشريد الشعب وهو ما نسميه بحق (النكبة الكبرى)،
في هذه النكبة المأساة، التي نعيش ذكراها هذه الايام سرقوا الوطن الذي كان قائما بمؤسساته كافة وطردوا شعباً كان يسعى للاستقلال وقد خاض كفاحاً باسلاً لتحقيق ذلك لكنه لم ينجح نظرا لحجم وطبيعة القوى المتآمرة على فلسطين وشعبها.
في معرض الحديث عن النكبة والوطن الذي سرق لابد من التأكيد مرة تلو الاخرى بأن فلسطين لم تكن خالية من السكان كما يزعم الصهاينة بل كانت دولة قائمة تخضع لانتداب بغيض لعب دورا تآمريا في حرمان شعبها من الاستقلال، وتشير مختلف الدراسات والأبحاث خاصة تلك التي اجراها الباحث الدكتور سلمان ابو ستة تناول فيها أوضاع فلسطين قبل النكبة واكد أن الصهاينة أقاموا دولتهم العنصرية على مؤسسات دولة كانت قائمة حيث كان في فلسطين إبان الانتداب 1700 منشأة حكومية من نوادي ومباني ومؤسسات للصناعة وغيرها، كما كانت فلسطين من أكثر الدول المجاورة تقدماً في المجالات التجارية والصناعية والزراعية فقد ضمت 500 مؤسسة عاملة في مجالات متعددة، وتميزت فلسطين بموقعها الجغرافي المميز الذي كان يربط البلدان المجاورة بشبكة من السكك الحديدية وفيها 41 محطة للقطار و700 كيلو متر من السكك الحديدية، إضافة إلى 31 مطاراً و 6000 كيلو متراً من الطرقات المعبدة و37 معسكراً للجيش البريطاني وقد سلمت بمعظمها ومعداتها للصهاينة الغزاة الذين استخدموها في حربهم لإبادة شعبنا وتهجيره عن وطنه.
في تلك النكبة المستمرة أيضا استولت إسرائيل في حينه على 2000 معلم تاريخي من المساجد والمقابر والأديرة والكهوف ومراكز الآثار، كما وكانت فلسطين غنية أيضا بمصادر المياه وعذوبتها وفيها آنذاك 3650 مصدراً للمياه، ومن أجل السيطرة على كل هذا استخدمت العصابات الصهيونية كل وسائل الإبادة من قتل وتدمير واغتصاب وحرق الناس وهم أحياء كما حدث مع أهالي طيرة حيفا وغيرها ويوماً بعد يوم يتم الكشف عن هذه المجازر كما حدث في كشف مجزرة الطنطورة العام الماضي، وقد أثبتت تلك الدراسات بما فيها تلك التي صدرت عن بعض الكتاب والباحثين الإسرائيليين ممن استيقظت ضمائرهم فأشاروا إلى أن 90% من القرى الفلسطينية نزح سكانها الذين مثل عددهم آنذاك 52% تحت وطأة التعرض لمجازر عسكرية منظمة جرت أثناء وجود الانتداب البريطاني وتحت حمايته، ومع حلول شهر أيار عام 1948 و الإعلان رسمياً عن قيام دولة الاحتلال تم طرد النسبة المتبقية التي تمثل 42% من السكان وقد استكملت عملية طرد العدد المتبقي الذي يمثل 6% بعد اتفاقات الهدنة التي وقعت مع الدول العربية المشكلة لجيش الانقاذ هذا الجيش الذي لم ينقذ شيء فقد ضاعت فلسطين تحت نظره .
كما وتبين تلك الدراسات أيضا أن العصابات الصهيونية ارتكبت في حربها ضد شعبنا أبشع المجازر التي عرفتها الإنسانية حيث دمرت أكثر من 700 قرية ومحله ومسحتها بالكامل عن الأرض ونفذت ما بين عامي 1947و1949 فقط 247 حادثة قتل وأباده منها 141 مذبحة تعتبر 70 منها في إطار المذابح الكبرى و 71 في إطار المتوسطة ، كل ذلك يبين ان العصابات الصهيونية تمكنت بممارساتها الارهابية عام 1948 من إتمام حلقات فصول مؤامراتها القاضية باحتلال كل فلسطين وطرد أهلها الذين تحولوا إلى لاجئين فاق عددهم هذه الأيام سبعة ملايين لاجئ تناثروا في اتجاهات متعددة إلى كل من لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة والى العديد من دول العالم الأخرى،
من خلال ما تقدم فان لغة الأرقام التي أشرنا لها أعلاه والعديد مثلها مما تختزنه ذاكرة الأجيال وما أكدته الأبحاث والدراسات تبين بشكل جلي أن دولة الاحتلال قامت بسرقة دولة كانت قائمة بذاتها وشردت شعبا كان يعيش في ارضه وقلبت حياته رأسا على عقب.
في هذه الأيام من شهر أيار حيث تمر ذكرى هذا الجرح الغائر في الجسد الفلسطيني يؤكد الشعب الفلسطيني انه رغم ما اصابه من جراح وألم لم ولن يستسلم للوقائع التي فرضتها دولة الاحتلال كنتاج للنكبة وهو ما زال يواصل مسيرته الكفاحية متمسكا بحق العودة الي تلك الديار التي شرد منها وعلى طريق ذلك فقد أسقط شعبنا العشرات من مشاريع التوطين التي استهدفت قضية اللاجئين وشطب حق العودة كما وتمكن خلال سنوات كفاحه الطويل من الصمود في مواجهة محاولات شطب القضية الفلسطينية وازاحتها عن جدول الاهتمام الدولي ، واستطاع بتضحياته الجسام وبكفاحه الدؤوب ونضاله المثابر إعادة تشكيل هويته الوطنية وإبراز كيانه السياسي الموحد المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعززت مكانتها على كافة الأصعدة وحظيت باعتراف عربي و عالمي يتزايد في دعم وتأييد حقوق شعبنا في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعودة لاجئيه طبقا للقرار 194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة .
ونحن نتحدث هذه الأيام عن النكبة نقول ان فصول المؤامرة ما زالت مستمرة لتصفية قضية الشعب الفلسطيني والعودة به الى ما بعد النكبة والتعاطي معه كمجموعات سكانية متناثرة تفتقر للتمثيل السياسي الموحد ، ولذلك فإن خيوط المؤامرات ما زالت مستمر تستهدف وحدة الشعب ووحدة تمثيله المعبر عنه بمنظمة التحرير الفلسطينية ويتكئ اصحاب المؤامرة بكل اسف على حالة الانقسام البغيض لتنفيذ مشروعهم الخبيث ، لذلك لا بد من تظافر الجهود لإنهاء هذا الانقسام واغلاق هذه الثغرة تنفذ منها هذه المؤامرة ولما يلحقه هذا الانقسام الخطير من ضرر بالغ بقضيتنا وشعبنا.
وفي ذكرى النكبة لا بد من الاشارة أيضاً الى أن الجهود المعادية تتركز ايضاً على محاولة تصفية و إلغاء دور الاونروا عبر ما يسمى بخطة الدمج التي تدعو لثلاث خيارات تتمثل في نقل المسئولية عن ملف اللاجئين الفلسطينيين الى المفوضية العليا للاجئين، أو وضعها تحت اشراف البنك الدولي او نقلها لمسؤولية الدول المضيفة وما ذهب اليه مؤخراً المفوض العام السيد لازاريني من سعي الأونروا للشراكة مع مؤسسات اممية اخرى تحت حجة نقص التمويل ، ان محاولات الالتفاف هذه تهدف بشكل اساسي إلى تصفية الأونروا كشاهد حي على النكبة التي حلت باللاجئين الفلسطيني وهي التي انشأت بموجب القرار 302 عام 1949 كتجسيد لمسؤولية المجتمع الدولي تجاه قضية اللاجئين والالتزام بحقهم في العودة لذلك فقد كان التفويض واضحاً بان تستمر الأونروا بتقديم خدماتها للاجئين الى حين تنفيذ القرار 194 القاضي بعودة اللاجئين الى ديارهم. إن محاولات تصفية الأونروا باي شكل من الاشكال هي مؤامرة مكتملة الاركان تهدف ليس فقط لإزاحة الأونروا بل لتصفية قضية اللاجئين وحق العودة واعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته تجاه قضية نشأت في احضانه وما زال عاجزاً عن تنفيذ قراراته بشأن توفير الحل العادل لها.
في ذكرى النكبة التي نعيش وقائعها كل لحظة يدرك كل ذو بصر وبصيرة أن المخططات التصفوية لقضية شعبنا مستمرة ومتصاعدة بوتيرة عالية تجاه مختلف الملفات الامر الذي يتطلب دون تردد الإسراع في اعتماد إستراتيجية وطنية شاملة تقوم على تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني ، والعمل الجاد لتشكيل جبهة موحدة لتفعيل المقاومة الشعبية في مواجهة الاحتلال والمستوطنين والعمل على استثمار حملات الـتأييد والتضامن الدولي المتنامي مع شعبنا وعدالة قضيته، وفي هذه الذكرى المؤلمة نقول مرة ومرات إن مواجهة هذه المخططات التصفوية المتسارعة يتطلب الإسراع في إنهاء الانقسام والتوجه بجدية نحو تعزيز الجبهة الداخلية واستعادة الوحدة الوطنية والعمل على معالجة كافة الملفات في اطار الحفاظ على مكانة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا وضرورة تفعيل مؤسساتها والقيام بدورها كاملا في قيادة شعبنا وتعزيز صموده داخل الوطن وفي أماكن اللجوء ومخيمات الشتات، بهذا فقط يمكننا أن نصمد في مواجهة المخاطر وإفشال المؤامرات وبغير ذلك فإن مفاعيل النكبة ستتواصل وتتحول إلى نكبة مزمنة تعصف بشعبنا وقضيتنا الى الابد.