عادة أكتب موضوعاتي الصحافية بحيوية الذهن وبسلاسة السرد والوصف وبفلسفة الشرح والتأمل، وأتدلل في اختيار عناويني، مهما زاحمتني أوقاتي الضائعة في لهيب أيامي المكررة والمتشابهة، لكن الغرابة والحيرة حين أصارح نفسي وأكتب عن واقع حياتي الملتف حولي، أكون أَحْمَق بالتعبير ومُبتدئًا بالكتابة، ثم أتلون وأتمايل وأتجول وأتخاصم وأتصالح مع لغة الأم، وأتحير في اختيار كلمات عائمة في بحر مليء بالأحرف المبعثرة في العمق، سهلة النظر إليها من بعيد، وصعبة في اصطيادها واستخراجها لتحضيرها على الفور على شكل وجبات مقروءة دسمة المعنى. نعم أفشل بكل مرة في اصطيادها وتحضيرها، خوفًا من تحركاتها العكسية النشطة بهاجسي، واستسلامًا لعاداتي وقيودي في البوح العام وهذا يُصعب عليه المهمة بالأحرى. ولا أعلم أن ما أخشاه هو الأفضل لي، وإني لا زلت حقاً أحتاج للكثير من الشجاعة للتحرك نحو ذاتي لمجاراته وهزيمته حتى لو كان الأمر على جولات!
وبهذا الشعور المعقد في الوصف وذو موعد خاطئ، أفتش عن حكايتي الغامضة بين ثنايا الكلمات، وأنا عاجز وخائب من النهاية التي سأصل إليها ربما، وبهذا الموقف أعاند نفسي وأُكمل ما بدأته، لتصبح أسطري مفيدة وتنال الإعجاب الجزئي لدى البعض. لعلي أن أصل إلى راحة مؤقتة تكسبني شرف المحاولة لكي أستطيع بدوري تحريك حمل ثقيل يجهدني ويزعجني أغلب الوقت، وهمي الوحيد هو الكلام والتعبير والنفر ممن حولي، القاطنون بمجتمع يسوده الحقد والكراهية والقسوة والنفاق، حتى أرتاح وأصارح ذاتيا بأن كل شيء تغير ولم يعد كما كان، فالآخرين العابرين على كلماتي ليسوا بمحل اهتمام وإرضاء. عذرًا لهم. إن أنانيتي مزعجة هذه المرة بالذات، فليقولوا ما يشاؤون عني. أنا كافر بزمن قاسٍ ونظرتي هذه لا تقبل المناقشة والمراجعة. وانفعالي الداخلي أقوى بمئات المرات من تعبيراتي الخجلة، ومن دفاتري ومسوداتي الخاصة بي والمحظورة للعلن. أيها القائل، أنه حان الوقت للغوص في العمق لنفهم أكثر، فمناوراتك طالت وقتا، وغير مفيدة حتى الآن. وبلا ضجيج!
نعم. نعم سأقفز من الأعلى وأُصارحكم بجدية. وقد تتسم صراحتي بالتردد والخفاء في بعض الجوانب، لكني سأحاول، حتى لا يُقال عني إني جبان في الحديث، على الرغم من مظهري المتردد.
إذ فشلت عشرات المرات في فصل نفسي عن مجتمعي المُخيف، بحكم عملي في الإعلام وبفعل رقعتي الواسعة في إقامة العلاقات، حيث إنني بحاجة لهذا التأثير بالمعقول وليته يبقى معقولاً!. لا أن أتأثر وأتأزم بمسبباته وأذهب بعيدًا بإحساس اشمئزازي عنه نحو طريق ضال على جانبيه أشواكا بشرية لا دعة. لذلك أن التجارب أكسبتني معرفة البشر، وجعلتني حذرا وباردا بالتعامل والتصرف، وقادر على التمييز وفق درجات معينة مهما اختلف هذا الشخص أو ذاك، على الرغم من المخادعات وهفواتي القليلة التي تكلفني الكثير بسبب طيبتي المفرطة والتي تسبق عقلي أحيانًا.
وضمن خبرتي في معرفة من اختلطت بهم ومن صادفتهم من حولي وَجَاهِيًّا أو اِفْتِرَاضِيًّا، تراجعت مئات الخطوات إلى الوراء لأنظر بعينين واسعتين لأقيم بهما البشر، بل امتنعت بمحض إرادتي عن التفاعل في موضوعات بائسة وأحاديث اجتماعية مرهقة للعقل، ومثال على ما أقصده: لم أبدِ رأي الشخصي بأي قضية أو موضوع جدلي على المنصات الاجتماعية منذ فترة طويلة، ليس ضعفًا بشخصيتي أو عدم قدرتي على الرد الذي هو حقي أمام من قبلت دعوته وقبل دعوتي في خانة الصداقة، إنما عطف بعقلي الذي أميل كثيرًا لرغباته في الآونة الأخيرة، لما هو سائد من مظاهر التفكير المريض والمنشورات والتعليقات الجدلية البائسة والتي تُظهر حقد وكره الأشخاص لبعضهم.
أيها السادة، إنه قبل حوالي عقد من الزمن، عنونت على موقعي اجتماعي جملة على هذا النحو: "هذا الفضاء يمثلني شَخْصِيًّا"، لحماسي الشديد يومها في نشر آرائي بعيدًا عن توجهات وسياسة المؤسسة الإعلامية التي كنت وقتها أتبع لها، بينما أهملت موقعًا، والآخر أتفاعل عليه كل أيام لتفريغ شحناتي السياسية وخواطري على أرضيته، كتعود ليس أكثر، ومنصاتي الأخرى أنشر من خلالها فيديوهات وصور تتعلق بيومياتي وبنشاط الرياضي، وجميعها أتعامل معها بهدف التسلية وإشباع تفاعلاتي المزاجية، وأيضًا للاتصال والتواصل مع الآخرين.
ودون ذلك، أيامي تشبه بعضها مع تغييرات طفيفة مرتبطة بأمر طارئ ومشكلة ما، وإذا حدثت مشكلة فجأة تأخذ معي وقتا للمناقشة والندية والتشديد والمرونة والمعالجة، ومرات أنتعش بأوقات ومرات أنفر بأوقات، وأحيانًا أستفرد بلوم نفسي ويصبح مزاجي سيئًا، وفي لحظة أصير شخصًا كُومِيدْيَا وتعلو أصوات ضحكاتي في أي مكان يجمعني بأصدقائي. إن كانت شخصيتي غريبة نوعا ما، إلا أنني أودها وأكرها في آن واحد، ولا أدعي المثالية!
والغرابة في وصف شخصيتي، أهون من بشاعة وقسوة وخباثة ولأم وحقد الناس، إذ أصبحت لا أطيق مجتمعا فجا وبشعا ومنافقا ومعقدا ومعاقا إلى هذا الحد. نعم تعمدت القسوة في وصفه، لكني صبور عليه، وأعيش في كنفه ولم أتجرد منه بعد. واحترامي للآخرين، سلوك لن أتخلى عنه لأنه راسخ في شخصيتي منذ نشأتي، والتزامي بمبدأ الصراحة والحق لن يتغير، وسيبقى وجهي واحد غير متعدد الوجوه، وسأبقى أتعلم من الحياة وأكتشف خفايا البشر. وفي النهاية، أرجو ألا يفهم البعض إني مَوْجُوع ومُنكسر ومُحبط، بل غضبي الشديد وانزعاجي وعنادي جعلوني أواجه ذاتيا ومجتمعيا في وقت واحد. والنتيجة كسبت جولة واحدة مع ذاتي ربما تكون الوحيدة، أما مجتمعي فُتح باب المواجهة معه ولا أعلم متى يُقفل؟