لم تمضِ الشهور الثلاثة الأولى في عام 2023 حتى دخلت المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة من الصراع مع الاحتلال، في ظل حكومة يمينية متطرفة تريد فرض وقائع جديدة وتجاوز الخطوط الحمراء مع الشعب الفلسطيني، وهو ما قابله الفلسطينيون بتصعيد العمل المقاوم في الضفة الغربية، وتطوّر في طريقة عمل الفلسطينيين لتصبح أكثر تأثيراً على دولة الاحتلال والأمن القومي لها.
في انطلاقة حركة "حماس" في شهر كانون الأول ديسمبر العام الماضي، كشف قائد الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار أن الاستخبارات العسكرية للجناح العسكري للحركة "كتائب القسام" قدرت فعلاً أن الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم سيكونون أمام استحقاقات وطنية كبرى في العام 2023، مشيراً إلى أن هذه الاستحقاقات ستكون كبيرة وباهظة على الفلسطينيين ومحور المقاومة.
وقال السنوار بشكل صريح إنه أمام هذه التحديات وبناء على هذه التقديرات فإن الأمر يتطلّب إعطاء الفرصة لاشتعال المقاومة في الضفة المحتلة؛ لأنها قلب المشروع الوطني والمقاومة، مع الاستمرار في مراكمة القوة أشكالها كافة، وحشد طاقات الشعب الفلسطيني للمواجهة المقبلة، والبقاء على أهبة الاستعداد لهبّة رجلٍ واحد للدفاع عن المسجد الأقصى، وأن تكون كل الأمة الحية جاهزة للزحف بطوفان هادر لاقتلاع هذا الاحتلال عن أرض فلسطين.
ما تحدّث عنه السنوار في خطابه بتنا ونحن في الشهر الثالث من العام 2023 نشاهده على الأرض، ونرى تزايد فعل المقاومة في الضفة وحجم تأثيره على الاحتلال سياسياً، وأمنياً، وعسكرياً. فعلى المستوى السياسي لدى المحتل باتت المزايدات والاتهامات الداخلية بين الحكومة والمعارضة، وبين أطراف الحكومة ذاتها أمراً بارزاً، وبات اتهام أطراف الحكومة بالتقصير شيئاً مألوفاً بعد كل عملية فدائية، وبات رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزيراه "ايتمار بن غفير" و"بتسلئيل سموترتش" على قائمة الاتهامات بالعجز من ناحية، وبأن الوزيرين المتطرفين هما السبب في تأجيج الأوضاع مع الفلسطينيين عبر الاستفزازات التي يقومان بها ومحاولاتهما إدارة الصراع مع الفلسطينيين بمبدأ حسم الصراع من ناحية ثانية.
الخلافات الداخلية المتصاعدة في دولة الاحتلال قد تفرض استحقاقات على الفلسطينيين في العام 2023، وربما يكون الفلسطينيون أمام تحدي محاولة نتنياهو الهرب من الضغط الداخلي الذي تصاعد بشكل كبير جداً خلال الشهر الثالث، بتصدير الأزمة لإحدى الجبهات وخاصة قطاع غزة، وهو ما يفرض على المقاومة الفلسطينية الاستعداد لمثل هذا السيناريو، وتعقيد خيارات الاحتلال تجاهه.
أما على المستوى الأمني، فإن العمليات الفدائية تصاعدت وسط عجز لدى المنظومة الأمنية التي لم تترك وسيلة لدراسة الحالة المقاومة في الضفة ضمن سعيها لقولبتها وإيجاد حل لها، وهو ما انعكس سلباً بعدم قدرتها على إيجاد وسيلة تحبط العمل المقاوم بشكل مسبّق وقد بات جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" في معضلة حقيقية، فالسيطرة الأمنية التي كان يتغنّى بنجاحها عبر عمليات "جزّ العشب" والاعتقالات الموسّعة لم تعد كما في السابق، في ظل تغيير كبير في الفكر المقاوم لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو ما أدخل المنظومة الأمنية في حالة استنزاف وعدم قدرة للسيطرة على الوضع، وتبادل للاتهامات بينها وبين المستويين السياسي والعسكري.
وعلى المستوى العسكري، فمع بداية العام الجديد لا يزال الجيش مستنزفاً في مناطق الضفة المحتلة، ولا يزال ينشر قرابة 60% من قواته في محاولة يائسة للسيطرة على الوضع ومنع تحوّل الضفة إلى قطاع غزة جديد، والأخطر بالنسبة له أن استخدام القوة لا يأتي سوى بنتيجة عكسية. حيث باتت ردود الفعل القوية على جرائم الجيش أمراً مؤكداً لا خلاف عليه، واستمرار الحالة الموجودة في الضفة يضعف قدرة الاحتلال على التعامل مع المخاطر في الجبهات الأخرى وخاصة مع جبهة غزة، أو مع محور المقاومة والاستعداد لحرب متعددة الجبهات.
هنالك جملة من القضايا في حال عبثت بها حكومة الاحتلال المتطرفة أو عملت على فرض وقائع جديدة فيها فإن الاستحقاقات الكبيرة ستكون حاضرة للتنفيذ، إلى جانب استحقاق تصاعد المقاومة في الضفة المحتلة، وأبرزها قضية القدس والمسجد الأقصى، إذ لن يسمح الفلسطينيون في جميع الساحات، وخاصة في قطاع غزة، بتجاوز المعادلات التي تمّ رسمها بالدم في معركة "سيف القدس"، ولن يسمح لـ بن غفير وغيره بفرض وقائع جديدة في المدنية المقدسة.
وبدرجة موازية فإن تنفيذ الاحتلال مخططاته المتطرفة تجاه الأسرى في سجون الاحتلال سيكون مفجّراً للأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وسيفرض أن يكون الجميع أمام استحقاق المواجهة، خاصة أن قضية الأسرى هي جزء من الاستحقاقات الوطنية الحساسة التي لا تراجع عنها، ناهيك عن أن استمرار الاحتلال بالتهرّب من إتمام صفقة تبادل مع المقاومة خلال العام 2023 قد يدفعها إلى المبادرة وتنفيذ عمليات كبيرة بهدف زيادة غلّتها من الجنود الأسرى، وهذا أيضاً سيفرض على جميع الفلسطينيين مواجهة الاستحقاقات الوطنية الكبرى نصرةً للأسرى.
الحقيقة التي بات يدركها رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو أن معركة جديدة بينه وبين قطاع غزة لن تكون منقذة له، فعلى مستوى الاحتلال الداخلي لا يمتلك نتنياهو القدرة على المناورة أمام المعارضة التي تدرك إمكانية اتجاهه لهذا السيناريو، فيما لن يكون موقف الجيش مسانداً لهذا التوجّه وسط الاحتجاجات والنظرة السلبية للحكومة، واتهام أطراف مقرّبة من الجيش للمستوى السياسي بأنه لا يعي حجم وطبيعة المخاطر التي يواجهها الجيش، وأنهم ينفذون سياسات ستؤدي إلى تفجّر الأوضاع من دون أي أهداف استراتيجية.
ومن ناحية ثانية، ما يعقّد خيارات نتنياهو أن الأوضاع اليوم في قطاع غزة ليست كما كانت قبل عامين، والمفاجآت قد تكون عنواناً للمعركة التي قد يفتعلها، أما الضفة وعملها المقاوم المتصاعد فستضاعف عملها بجوار غزة، إضافة إلى جبهة فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، الذين لن يتركوا الفرصة للمشاركة في معركة جديدة تغيّر المعادلات، وقد تكون هذه المعركة حافزاً لتدخّل محور المقاومة لجني الثمن من الاحتلال، عبر معركة متعددة الجبهات، محسومة النتائج لصالح مشروع المقاومة في المنطقة.
من يراقب الوضع حالياً يدرك أننا في خضمّ الاستحقاقات الوطنية التي تحدث عنها قائد حركة "حماس" في غزة، وأن ذروة هذه الاستحقاقات قد تكون خلال الأشهر المقبلة، وهذا الأمر قد يكون كفيلاً بصنع معادلات جديدة لصالح القضية الفلسطينية، ولهذا لا عذر لتخاذل أي طرف من الفلسطينيين، ولا عذر للعرب والمسلمين في نصرة القضية الفلسطينية في هذا التوقيت، فالاستحقاقات كبيرة وتحتاج لتكاتف الجهود على مختلف المستويات.