لا تختلف النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة عن تلك التي صاغتها كبرى الهيئات العسكرية والاستراتيجية الأميركية.
بما أن الحكومات المتعاقبة في "إسرائيل" كانت تحاول على الدوام استلهام التجربة الأميركية في كثير من المجالات، لا سيما تلك التي تتعلّق بالأمن القومي، والدفاع عن مصالح "الوطن" في وجه الكثير من المخاطر التي تتهدده، فقد شرعت بعد تفجّر "انتفاضة الأقصى" في العام 2000، في إعادة النظر في كثير من مبادئ عقيدتها القتالية، في محاولة منها لمواجهة ذلك النمط الجديد من العمليات المصنّفة ضمن مبادئ "الحرب اللامتناظرة ". هذا النمط كان عبارة عن سلسلة من الهجمات الاستشهادية التي ضربت عمق المدن الإسرائيلية، موقعة خسائر بشرية ومادية هائلة، إضافة إلى هجمات مسلحة استهدفت قواتها المنتشرة في طول الأراضي الفلسطينية المحتلة وعرضها، يُضاف إليها صواريخ قصيرة المدى ضربت عديد المدن القريبة من قطاع غزة تحديداً، وكذلك المستوطنات المقامة على مساحات شاسعة من أراضي القطاع قبل عملية الانسحاب في العام 2005. وقد بذلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية جهوداً مضنية في ذلك الوقت من أجل تكييف تلك العقيدة التي بدت في تلك الفترة عاجزة عن مواجهة المخاطر المستجدّة، لتتمكن من مجابهة جملة من الأساليب والأدوات التي لم تعهدها من قبل.
ورغم أن الكيان الصهيوني حاول بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، تقديم نفسه للإدارة الأميركية بأنه حليف يمكن الوثوق به في الحرب على "الإرهاب"، في ظل انطلاق العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان، وأنه يملك كل المقوّمات التي تجعله طرفاً أساسياً في تلك الحرب إلى جوار حليفه الأميركي، فإن فشله في مواجهة النمط الجديد من العمليات المشار إليها آنفاً، والتي ضربت عمقه الأمني في السنوات الخمس الأولى من الألفية الجديدة تحديداً، قد كشف المستور، وأظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الكيان عاجز عن حماية جبهته الداخلية، وأنه لا يملك تلك الخبرة التي يتحدّث عنها، وليس لديه حلول يمكن أن تكون مفيدة في وضع حد للضربات التي وصلت إلى قلب المدن الصهيونية، وبالتالي لا يمكن له وهو بهذا العجز، وفي ظل تلك الإخفاقات أن يساعد حليفه الأميركي في مواجهة المخاطر الكثيرة التي تعترضه.
هذا الإخفاق الصهيوني تكرر في أحداث لاحقة، لا سيما في عدوان تموز/يوليو 2006 على لبنان، وفي عدوانه على قطاع غزة في العام 2008-2009، حيث ثبُت مرة أخرى أن الادعاء الإسرائيلي بامتلاك القدرة على مواجهة ذلك النوع الجديد من الحروب كان بلا معنى، وأنه رغم الغطاء السياسي غير المسبوق، والدعم العسكري الهائل، والوقت الذي مُنح له لحسم المعركة، وتحقيق الانتصار في حرب لبنان تحديداً، فإنه لم ينجح في ذلك، وهذا ما دفعه بعد انتهاء الحرب إلى تشكيل لجان تحقيق؛ لتقييم أوجه القصور والفشل، ووضع الحلول المناسبة لعدم الظهور بهذا العجز مرة أخرى، ولقراءة الأسلوب الجديد الذي استخدمته المقاومتان اللبنانية والفلسطينية في ذلك الوقت واستيعابه، والذي أفقد العدو الصهيوني جزءاً مهماً من قوته، ومنعه من استثمار تفوّقه العسكري بالطريقة المثلى، على خلاف ما كان يحدث سابقاً في الحروب التقليدية التي كان "الجيش" الإسرائيلي يحسمها في أيام معدودة في حروبه ضد الجيوش العربية.
النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة:
لا تختلف النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة عن تلك التي صاغتها كبرى الهيئات العسكرية والاستراتيجية الأميركية، وقد أشرنا في مقدّمة هذا المقال إلى محاولة "إسرائيل" محاكاة التجربة الأميركية في هذا المجال، وإظهار نفسها في صورة التلميذ النجيب الذي يحذو حذو معلّمه، ويسير على خطاه بكل مهارة وإتقان. ولذلك، قدّمت مراكز البحث الإسرائيلية تعريفات مشابهة بدرجة كبيرة لتلك التي طرحتها نظيرتها الأميركية، على الرغم من وجود اختلاف واضح في المصطلحات والتعريفات، فإن الأسس والمبادئ بقيت كما هي.
ويربط التعريف الإسرائيلي الحرب اللامتناظرة بجملة من المبادئ الأخرى، مثل ما سمّاه صراع القيم، والثورة التكنولوجية الهائلة، وصراع الثقافات والحضارات.
أحد التعريفات الإسرائيلية يشير إلى أن الحرب تصبح أكثر تعقيداً وشراسة عندما تقع بين "الجيش" الإسرائيلي وبين مجموعات تحمل ثقافة مختلفة كالثقافة العربية على سبيل المثال، إذ إن هذه المجموعات، حسب التعريف الإسرائيلي، تنظر إلى الحرب على أنها أوسع وأشمل من مجرد مواجهة مسلّحة، تُخاض في مسرح عمليات محدود، وتستغرق مدة زمنية محددة، بل إن الحرب من وجهة نظر أصحاب الثقافات العربية والإسلامية، وجزء كبير من ثقافات الصين وأميركا الجنوبية، عبارة عن صراع حضارات، يشمل كل أنصار الطرفين المتحاربين، ولا يقتصر فقط على القوات في الميدان، ويجمع بين القتال بالسلاح وبين الدبلوماسية، ولا يتقيّد بتواريخ محددة، أو بميدان معيّن. إضافة إلى ذلك، فإن التفوّق العسكري والتكنولوجي لـ"الجيش" الإسرائيلي يدفع أعداءه على الابتعاد قدر الإمكان عن خوض حرب تقليدية معه، تكون القدرات والإمكانيات العسكرية فيها حاسمة، بل يعتمدون على حروب طويلة زمنياً، تشبه إلى حدٍ بعيد حرب العصابات، لكنها تختلف عنها في الوسائل والأدوات، وميدان القتال، والمدة الزمنية التي تستغرقها، إضافة إلى اشتمال تلك الحرب على كل النواحي الأخرى غير العسكرية، مثل استهداف الجبهة الداخلية الصهيونية، والنواحي الاقتصادية، وصولاً إلى الشأن الداخلي للدولة المتعلّق بالسياسة الداخلية، والخلافات بين الأحزاب وغير ذلك. وفي تعريفات أخرى للحرب اللامتناظرة، ترى بعض المراكز الإسرائيلية أن ضعف "العدو- المقاومة"، وقلة إمكانياته العسكرية، وافتقاده إلى الأدوات المناسبة لخوض مواجهة تقليدية في مواجهة "الجيش" الإسرائيلي، ليس شرطاً لدفعه إلى الاستسلام أو رفع الراية البيضاء، بل إنه يعوّض ذلك النقص من خلال القدرة على الصمود، وخلق وضع لا يمكن للطرف الإسرائيلي تحمّله أو التكيّف معه، لا سيما في ظل عدم تمكّن ذلك الطرف (الإسرائيلي) من حسم المعركة، أو تسجيل نقاط انتصار واضحة يمكن أن تقرّبه من حسم المعركة، وأن مجرد صمود قوى المقاومة، وعدم انهيارها نتيجة ما قد تتكبّده من خسائر مادية وبشرية، هو بحدّ ذاته إنجاز يمكن البناء عليه على المدى الطويل، والمراكمة عليه وصولاً إلى مرحلة يمكن فيها مهاجمة "إسرائيل" من أكثر من جهة، عندما تسمح ظروف المعركة بذلك. وبالتالي، يمكن لنا أن نكتشف أن النظرة الإسرائيلية إلى الحرب اللامتناظرة تشبه كثيراً النظرة الأميركية، ولكنها بالرغم من ذلك الشبه لم تستطع إيجاد أو طرح حلول عملية للتعامل مع تلك الحرب كما فعل الأميركيون، وهذا ما ظهر جليّاً في الميدان في أكثر من معركة كما أشرنا سابقاً. وبناءً عليه، أخذت "إسرائيل" في البحث عن بدائل أخرى، تجنّبها خوض غمار هذا النوع من الحروب، وتزيح عن كاهلها عبء تلقّي ضربات قاسية تستهدف خاصرتها الرخوة، وعمقها الأمني الهش.
البحث عن حلول:
بعد فشل "الجيش" الإسرائيلي في تحقيق نصر حاسم، في معارك العقد الأول من الألفية الثانية، يُرضي غرور قادته، ويمكّنهم من الظهور بمظهر المنتصر، ويعطيهم القدرة على رفع سقف الآمال أمام مناصريهم بمستقبل آمن لـ"دولة" الكيان، حيث حلّ الشعور بالإحباط والفشل في كثير من المؤسسات الأمنية والعسكرية، الأمر الذي دفع اللواء احتياط "إسحاق هريئيل" إلى وصف "الجيش" الإسرائيلي بأنه "جيش" فارغ، فيما قال عنه رئيس محكمة الاستئناف اللواء "يشاي بار" إنه "جيش" متوسط المستوى، ولا يتفوّق على خصومه إلا بقليل من المميزات المحدودة، وأنه عندما يدخل إلى يوم الحسم سيظهر مثل الشيك من دون رصيد. في ظل هذا الوضع الذي انتابه الكثير من الشكوك بقدرة "جيش" الاحتلال على مواجهة حرب مختلفة عن سابقاتها، وفي ظل اعتماد أعداء "إسرائيل"، لا سيما في لبنان وفلسطين، على أسلوب "الحرب اللامتناظرة "، فقد أخذت الدوائر المختصة في "الدولة" العبرية بالبحث عن حلول مناسبة، تستطيع من خلالها مواجهة المتغيّر الجديد، بما يمكن أن يضمن لها تحقيق النصر، أو على أقل تقدير المحافظة على قدرة الردع في وجه أعدائها الذين باتوا أكثر جرأة، وأصبحوا يتقدمون بخطوات واثقة نحو تهديد منظومة الأمن الإسرائيلية بشكل أكثر جدّية، وبمستوى لم يكن معهوداً من قبل.
وبناءً عليه، فقد توصّلت مراكز البحث الاستراتيجية في الكيان الصهيوني إلى صيغة يمكن الاعتماد عليها لمواجهة أسلوب الحرب اللامتناظرة، اعتمدت بطريقة أو بأخرى على مواجهة ما سمّته "حالة معقّدة جداً، ومركّبة بطريقة غير معتادة"، وهذه الحالة تشمل كل المستويات من عسكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية، وهي غير مقتصرة كما كان يحدث سابقاً على معارك عسكرية تدور في ميادين القتال، وإنما هي معركة متعددة المستويات، تدور في كثير من الأماكن، مثل المدن والقرى والبيوت، وفي المؤسسات والبنوك ودور النشر، وفي دور السينما والملاهي ورياض الأطفال، وأن نتيجة تلك المعركة التي تُخاض على هذا المستوى الواسع أهم بكثير من تلك التي تُخاض في ميدان القتال.
وقد أوصى الخبراء الاستراتيجيون الصهاينة بإعادة النظر في المفاهيم الفلسفية للحرب بكل أبعادها، ووضعوا جملة من المبادئ التي يجب على القادة في "دولة" الاحتلال التنبّه لها، والعمل وفق قواعدها، وكان من أهمها:
1/إعادة الاعتبار لسلاح البر: أوصى الخبراء الصهاينة بضرورة إعادة الاعتبار للذراع البرية لـ"الجيش" الإسرائيلي، والتي نالت نصيب الأسد من جملة الانتقادات التي واجهها "الجيش" نتيجة إخفاقه في حسم المعارك التي خاضها خلال السنوات الأخيرة، وقد دعت تلك التوصيات إلى إعادة هيكلة فرق "الجيش" البرية، بما يؤدي إلى مزيد من التوافق والانسجام في أداء المهام الميدانية، وبما يساعد أيضاً في تقليل عدد الخسائر البشرية، إضافة إلى تحديث مجموعة الأدوات التي يستخدمها من آليات عسكرية، وأجهزة مراقبة واتصال.
2/ تعزيز دور سلاح الجو : ركزت التوصيات على ضرورة تعزيز دور سلاح الجو الإسرائيلي، وإعطائه مساحة أوسع من مجموع المهام القتالية التي يتم تنفيذها أثناء المعركة، مع التنبّه إلى مسألة تحديث الأسطول الجوي، لا سيما على صعيد الطائرات الحربية التي تملك مرونة أكبر في أداء المناورات في الجو، ولديها وسائل تكنولوجية حديثة تستطيع من خلالها إصابة الأهداف بدقة، إضافة إلى زيادة الاعتماد على سلاح الجو المسيّر.
3/ تطوير منظومات الدفاع الجوي : في ظل تطور إمكانيات المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، تحديداً على صعيد سلاح الصواريخ، التي باتت تشكل خطراً على بعض المدن الصهيونية في ذلك الوقت، وبناءً على تقدير موقف مستقبلي بأن تلك الصواريخ ستتطور، وستصبح أكثر قدرة على إحداث الدمار، وأبعد مدى بما يشمل معظم المدن المحتلة، فقد أوصى المختصون بتحديث منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بما يمكنها من مواجهة التهديدات الجديّة التي أصبحت تشكلها صواريخ المقاومة، لا سيما أن تلك التهديدات كانت ترتفع شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن، وزيادة الخبرة لدى المقاومين سواء على صعيد التصنيع، أو طرق التوجيه والإطلاق.
4/حصر الحرب في مدة زمنية محدودة : بما أن الطرف الآخر (المقاومة) يفضّل خوض حرب طويلة تشبه في مضمونها حروب الاستنزاف، معتمداً في ذلك على خزّان بشري لا ينضب، وعقيدة قتالية لا تدفعه إلى الملل أو اليأس، فإنه يتوجّب على القادة الصهاينة بذل كل الجهود الممكنة لعدم خوض حرب من هذا النوع، ومحاولة حصر المواجهة العسكرية في مدة زمنية قصيرة نسبياً.
5/ التحلّي بالصّبر وطول النفس: يجب على القادة العسكريين الإسرائيليين بمستوياتهم القيادية كافة، وخصوصاً أولئك الذين يقودون الوحدات القتالية في الميدان، أن يتحلّوا بطول النفس والصبر إلى أبعد الحدود، لأن الصراع الذي يُدار من جانب الطرف الآخر (المقاومة) يعتمد على تكتيك يسعى إلى إدامة المعركة، حتى لو كانت منخفضة المستوى.
6/ الابتعاد عن وضع الخطط المعقّدة: ينبغي للقادة العسكريين الابتعاد عن وضع خطط وحلول تزيد من صعوبة المعركة وتعقيداتها، لا سيما على صعيد تنفيذ عمليات واسعة تتطلّب احتلالاً كاملاً للمناطق التي يوجد فيها المقاومون، ما يفرض على القوات الإسرائيلية البقاء في تلك المناطق لفترات طويلة، وهو ما يجعلها عرضة للاستهداف المتكرر، إضافة إلى تحمّلها المسؤولية القانونية عن المدنيين الموجودين في تلك المناطق، وهذا الأمر تحديداً يمكن أن يتحوّل إلى مأزق مستدام لا ترغب "إسرائيل" في التورّط فيه.
7/ المعارك المتوسّطة بفواصل زمنية: أفضل السيناريوهات التي يمكن أن تخدم السياسة الإسرائيلية وتحقق لها جزءاً من أهدافها التكتيكية، وتبعدها وإن بنسبة معينة عن خوض حرب طويلة، هي العمليات العسكرية متوسطة المستوى، والتي يمكن أن تفصل بين كل عملية وأخرى عدة سنوات، وهو ما أصبح يُطلق عليه في الأوساط العسكرية الصهيونية "معركة بين الحروب"، وهذا الأمر يجب أن يتم بعد دراسة مستفيضة للأهداف التي تريد "دولة" الكيان تحقيقها من وراء تلك المعركة، بالإضافة إلى تحديد عاملي الزمان والمكان، والتنبّه إلى الظروف المحلية والإقليمية التي يمكن أن تؤثّر في نجاح العملية. إضافة إلى كل ما سبق، يجب أن تكون كلمة الافتتاح في تلك العملية في يد "الجيش" الإسرائيلي، إذ يجب عليه أن يبادر إلى المعركة من خلال ضربة مفاجئة، تستهدف مراكز الثقل لدى المقاومة.
8/ الجبهة الداخلية: يتوجّب على القادة العسكريين الصهاينة الانتباه إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، ومحاولة وضع حلول عملية لجملة من التداعيات التي يمكن أن تواجهها نتيجة تلك المعركة، خصوصاً في ظل تطوّر إمكانيات فصائل المقاومة، التي أصبح بإمكانها استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ والقذائف، وهذا الأمر يمكن أن يعرّض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لضغوط كبيرة، ربما تؤثر في حماستهم تجاه العمليات التي يخوضها "جيشهم" بين الفينة والأخرى، وهو ما يفرض على القادة الصهاينة تنفيذ مهمة مزدوجة، تركّز في شقها الأول على تأمين المدن والمنشآت الحساسة من خلال المنظومات المضادة للصواريخ، وفي شقها الثاني على إدارة معركة إعلامية تستهدف في الأساس الجبهة الداخلية، وتشيع لديها إحساساً بالأمان من ناحية، ومن ناحية أخرى تحثّها وتشجّعها على مواصلة دعم خيارات قيادتها العسكرية والسياسية وتأييدها.
9/المنظومة الدولية: بما أن المعركة العسكرية يمكن أن ينتج منها خسائر في صفوف المدنيين في الطرف الآخر، وهو الأمر الذي قد يعرّض "إسرائيل" لانتقادات دولية واسعة، يجب على القادة الإسرائيليين إدارة معركة إعلامية وسياسية واسعة، يُستخدم فيها كل أنواع الكذب والتضليل، وقلب الحقائق، وتزييف المعلومات، وهذا الأمر بحاجة إلى وسائل إعلام محترفة، وناطقين عسكريين وسياسيين ذوي خبرة كبيرة، إضافة إلى إيجاد نوع من التكتّلات الدبلوماسية الدولية داخل المؤسسات الأممية، وتلك المعنية بحقوق الإنسان، لمنع صدور قرارات إدانة يمكن أن تؤثر في العمليات العسكرية الإسرائيلية.
ترجمة المبادئ في الميدان:
في ضوء ما سبق من مبادئ، والتي تحوّلت فيما بعد إلى توصيات مُلزمة تشمل أعلى الهيئات في "الجيش" الإسرائيلي، خصوصاً بعد عدوان 2014 على قطاع غزة، والذي تلقّى فيه "جيش" العدو ضربات مؤلمة، هزّت بصورة لم يسبق لها مثيل صورته السابقة، التي كانت تظهره في صورة "البطل الذي لا يُقهر"، فقد تم اعتماد جملة من التعديلات على آلية عمل "الجيش" الإسرائيلي، سنشير إلى بعضها للأهمية:
1/ ذراع البر: بما أن القوات البرية في "الجيش" الإسرائيلي، والتي تمثّل العصب فيه، ويُعتمد عليها في تنفيذ معظم المهام القتالية الرئيسية، وبناء على إخفاقاتها الكبيرة في الحروب الأخيرة، بداية من تموز/يوليو 2006 في لبنان، مروراً بحرب غزة الأولى 2008-2009، والثانية عام 2012، وصولاً إلى الحرب الثالثة 2014، فقد تم إدخال العديد من التعديلات على عمل "جيش" العدو، من خلال رفع قدراته التكتيكية والعملانية، إضافة إلى إمداده بأحدث الوسائل التكنولوجية، مع التركيز في بعض الوحدات التي تكون في مقدمة "الجيش"، على رفع مستوى الحماية للجنود، لتقليل حجم الخسائر البشرية، والتي ينظر إليها المجتمع الصهيوني بأنها أحد أهم محددات نجاح المعركة من عدمه.
2/ منظومات الدفاع الجوي: في كل حروب "إسرائيل" السابقة، التي خاضتها ضد الدول العربية، لم يتم تهديد الجبهة الداخلية الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال، وانحصرت تلك المعارك في أراضي "العدو"، بعيداً من المدن الصهيونية، التهديد الوحيد كان إبان حرب الخليج الثانية عندما أطلق الجيش العراقي عشرات الصواريخ في اتجاه تلك المدن، وهو الأمر الذي عُدّ تجاوزاً للخط الأحمر الذي كانت ترسمه "إسرائيل" لكل خصومها في المنطقة، ولكن بعد الحروب الأربع المُشار إليها آنفاً، والتي تعرضت فيها الجبهة الداخلية الصهيونية لسيل من الصواريخ بأنواعها المختلفة، والتي غطّت معظم المدن المحتلة من الشمال وحتى الجنوب، فقد تم إقرار خطة لتعزيز عمل منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، سواء من ناحية العدد، أو من ناحية القدرة العملياتية للتصدي لصواريخ المقاومة، إذ تم نشر العشرات من منظومات القبة الحديدية، التي تعترض الصواريخ ضمن مدى 70 كلم، والتي كانت قد دخلت الخدمة منتصف عام 2011 ولكن بأعداد محدودة، إضافة إلى منظومات أخرى من طراز مقلاع داوود، وحيتس، وباتريوت، وباراك.
3/ سلاح الجو: رغم أن "إسرائيل" كانت تعتمد دوماً على سلاح الجو في حسم معاركها مع الدول العربية، فإن فعالية هذا السلاح قد انخفضت كثيراً في المعارك مع فصائل المقاومة، لا سيما في لبنان وفلسطين، ولم تستطع حسم أي معركة بالاعتماد على طائراتها الحديثة، التي ألقت آلاف الأطنان من القنابل الثقيلة على المدن اللبنانية والفلسطينية، وبناء عليه فقد بدأت "إسرائيل" في تركيز جهودها على تحديث طائرات سلاحها الجوي، وتزويدها بتقنيّات أكثر قدرة على تحديد الأهداف وتدميرها، إضافة إلى حصولها على طائرات أكثر قوة، مثل طائرات الشبح "F-35 " أميركية الصنع، والتي استخدمتها لاحقاً خلال معركة "سيف القدس" أيار/مايو 2021. إضافة إلى كل ذلك، فقد منحت دوراً أكبر للطائرات المسيّرة بمختلف أنواعها، والتي نفّذت خلال السنوات الثلاث عشرة الماضية مئات العمليات التي استهدفت من خلالها ناشطي المقاومة، لا سيما في قطاع غزة، وصولاً إلى استخدام الطائرات المسيّرة الانتحارية خلال العامين الأخيرين.
4/ أجهزة الاستخبارات: قامت الهيئات المختصة التي أفرزتها لجان التحقيق المختلفة بإحداث تغييرات وُصفت في حينه بالكبرى على مستوى أجهزة الاستخبارات الصهيونية، وقد نال كل من شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، وجهاز الشاباك، نصيب الأسد من تلك التغييرات. "أمان" المنوط بها تقديم المعلومات الاستخبارية عن دول الجوار، وعن قوى المقاومة في الإقليم، وتقديم تقدير موقف يُبنى عليه قرار شن عملية عسكرية من عدمه، فشلت في تقديم معلومات حقيقية تتعلق بقوة حزب الله في لبنان قبيل حرب تموز/يوليو 2006، وهو الأمر الذي أدى إلى فشل العملية، إضافة إلى الخسائر الجسيمة التي وقعت في صفوف "الجيش" الإسرائيلي. أما الشاباك فقد فشل بدوره في تقديم معلومات وافية تساهم في حسم المعارك التي شنتها "إسرائيل" ضد قطاع غزة، لا سيما في أعوام 2008 و2012 و2014.
5/الجبهة الداخلية: على مستوى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فقد جرى ما يمكن وصفه بثورة، حيث تم تطوير مهام قائد الجبهة الداخلية بشكل واضح وجلي، إذ لم يعد مسؤولاً فقط عن إخلاء المناطق المستهدفة أو المباني المهدّمة من المدنيين في وقت الحاجة، ولا عن إطلاق صافرات الإنذار، وتوجيه السكان لحماية أنفسهم من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، إنما أُضيف إلى مهامه المسؤولية عن ما أُطلق عليه "المناعة الاجتماعية "، وهي التي كان من المقرر تنفيذها قبل ذلك من هيئات مدنية. إضافة إلى ذلك، فقد تم تشكيل القوة الرئيسية التابعة لقيادة الجبهة الداخلية، والتي تضم 24 كتيبة إغاثة وإنقاذ، و12 كتيبة مختصة بمعالجة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، و14مشفى، و10 كتائب لحفظ النظام، وهي جميعها تقع في 18 منطقة، إذ تمثّل كل منطقة منها منطقة لوائية موسعة. كما تم تقسيم المدن الكبرى إلى مربعات أمنية، وتم تعيين مئات الضبّاط كضباط اتصال في أوقات الطوارئ لمختلف المناطق، إضافة إلى تقسيم "الكيان الصهيوني إلى 27 منطقة إنذار مقارنة مع 10 مناطق قبل ذلك.
6/ تطويع المنظومة الدولية: في إطار إعادة التكيّف مع فلسفة الحرب اللامتناظرة وقواعدها، و في ضوء اعتبار الكيان الصهيوني التهديد السياسي والقانوني جزءاً من المعركة العسكرية، ابتكرت الجهات المعنية بالعلاقات الخارجية، وتلك التي تمثّل "الدولة" العبرية في المؤسسات الأممية، لا سيما المعنية منها بحقوق الإنسان، مفهوماً جديداً أطلقت عليه مصطلح "الحرب العادلة "، وذلك من أجل وضع عقائد وقواعد أخلاقية جديدة في الحرب المنوي الخروج إليها، تتيح للكيان التفلّت من القانون الدولي بصيغته المعروفة، واعتبار ما يجري من خروقات للقانون الدولي الإنساني، وقوانين حماية المدنيين زمن الحرب، بأنه أمر طبيعي تفرضه طبيعة المعركة غير النظامية.
الخاتمة: رغم كل ما سبق من تعديلات إسرائيلية خاصة بمواكبة مفهوم الحرب اللامتناظرة، والتي حاول العدو من خلالها ابتكار وسائل، واستخدام أدوات تناسب مضمون تلك الحرب، وتتصدى لها في كثير من المجالات، فإن النتائج التي اتضحت خلال السنوات من 2015، وحتى وقتنا الحالي، بما تضمنته من معارك قاسية على غرار "سيف القدس" و"وحدة الساحات" وصولاً إلى "بأس الأحرار"، وبما نشاهده منذ أكثر من عامين في الضفة المحتلة، لا سيما في المدن الشمالية منها، وما يجري هذه الأيام في مخيم جنين،، قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الحلول الإسرائيلية لم تؤتِ أُكلها، ولم تنجح في مواكبة ومجابهة الأساليب التي باتت تنتهجها فصائل المقاومة حتى في فترات الهدوء، التي تشهد مواجهة أمنية صامتة، وقد أقرّ كثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية وعديد من الجنرالات السابقين بهذا الإخفاق، وعدّوه فشلاً استراتيجياً يُنذر بمزيد من التراجع على مستوى قدرة الردع الإسرائيلية، ويمهّد الطريق أمام مزيد من النجاحات لفصائل المقاومة في فلسطين والإقليم.
تلك النجاحات سنتحدث عنها في الجزء الثالث والأخير من هذا المقال، وسنحاول التأصيل لمراحل بلورة قوى المقاومة لخطط المواجهة مع الكيان الصهيوني اعتماداً على مفهوم "الحرب اللامتناظرة".