حين كانت القضية الفلسطينية بالنسبة للعرب ولدول عديدة في العالم القضية المركزية، كان أربابها في ذلك الزمن وعلى رأسهم ياسر عرفات، يتمتعون بمساحة واسعة من حرية الحركة حتى بين الأطراف المتحاربة.
كانت طائرة عرفات التي تحمل الشعار السعودي تحط في مطار موسكو، بينما كان الأمر محرما على غيره أن يفعل ذلك، وحين ينشب قتال بين فريقين عربيين أو إسلاميين، كان الفلسطيني معفياً من تحديد موقف واضح؛ فمن أجل القضية المركزية يسمح لأصحابها أن يتميزوا.
غير أن هذا الأمر لم يعد معمولا به في زمن الربيع العربي، فكل طرف من المتصارعين على أرضه لا يعفي أي طرف آخر من حتمية الانحياز له، إمّا بالتأييد أو المشاركة، وصار الطرف الفلسطيني الذي عاش طويلا على مركزية قضيته، مطالبا كغيره بالانحياز.
قد يجري التسامح معه في أمر المستوى بحكم ضآلة إمكانياته، إلا أنه لن يستطيع التمتع بحرية حركة كتلك التي كانت في الزمن الغابر.
وشهدنا خلال هذه الفترة بروداً في علاقات عربية مع القيادة الفلسطينية، بعضها كاد يصل إلى القطيعة، وشهدنا كذلك تدخلات عربية فيما كان يوصف عادة بالشؤون الداخلية الفلسطينية، وسمعنا مجددا شعار القرار المستقل، الذي إن كان مقبولاً في زمن الهوامش الواسعة، إلا أنه غير مقبول في هذا الزمن.
وإذا ما ألقينا نظرة فاحصة على السلوك الفلسطيني، حتى على مستوى طرفي الانقسام، فإن ما يبدو ظاهرا وبقوة، هو انعدام هامش القرار المستقل لمصلحة سيطرة مطلقة للحسابات، وإذا كان هذا الأمر مفهوما بالنسبة لسلطة رام الله، بحكم التزاماتها واعتمادها الكبير على الدعم المشروط، فإنه يبدو الآن واضحا بالقدر ذاته على صعيد سلطة حماس في غزة.
وبمراقبة تفصيلية لسلوك حماس ولغتها السياسية وتقلباتها التحالفية، نرى أن هذه الحركة قد تغيرت، وأنها وجدت نفسها أخيرا مضطرة لأن تقدم طلب انتساب صريح لمعسكر الاعتدال العربي، وبوابته العريضة مصر.
حين يتعرض الزورق الصغير إلى عاصفة شديدة، فإن براعة القبطان تتجلى في قدرته على التخلص من الحمولات الزائدة، وزورق حماس في غزة يكتظ بهذا النوع من الحمولات، وأول حمل زائد وجدت حماس نفسها مضطرة لمحاولة التخلص منه هو غزة، فكيف تواصل الإبحار به بعد التقلبات الجوية العاتية التي داهمته؛ فالحليف القطري لم يعد بكامل لياقته وإغداقه، والحليف الإيراني على الأقل في أمر عنوان المقاومة والممانعة، لم يعد بالكفاءة ذاتها في الدعم الذي كان في زمن مئات الملايين، وهذه حمولة زائدة يتعين على الزورق الحمساوي التخلص منها أو الاحتفاظ بما هو دون الحد الأدنى من العلاقة معه. أما تركيا، فقد نشأت أمامها اهتمامات ذات طابع استراتيجي تبدو غزة فيها مجرد تفصيلة غير أساسية في المجال الاستراتيجي.
طوق النجاة لهذا الزورق العنيد والمكابر والمجازف جاء هذه المرة من مصر، وعلى نحو ما من سلطة رام الله، وما قدمته حماس حتى الآن يهون كثيرا عما يفترض أن تقدمه في قادم الأيام؛ والأمر هنا يزداد تعقيداً حين يدخل الأميركيون والإسرائيليون والأوروبيون على الخط، ولكل طرف من هؤلاء مطالب يتعين على حماس القبول بها، إما علناً وصراحة وإما بصورة موضوعية.
الأميركيون بعد أن قدموا فاتورة تأييد الجهد المصري للمصالحة، عرضوا شروطهم للتعامل مع نتائجها، إذ قال الموفد الخاص للرئيس الأميركي للشرق الأوسط جيسون غرينبلات، إن "على الحكومة الفلسطينية المقبلة قبول الاتفاقيات والالتزامات السابقة الموقعة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، والدخول في مفاوضات مباشرة"، وقبله قال نتنياهو: "نؤيد المصالحة إذا أفضت إلى اعتراف حماس بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي، وفككت قوات (القسام)، وأعلنت نبذ العنف".
من يستطيع إيجاد عازل بين حماس وهذه الشروط ذات السمة التعجيزية؛ كل معسكر الحلفاء القديم لا يملك مؤهلاً لأداء هذا الدور بما في ذلك تركيا الأطلسية، أما مصر التي دخلت بكل ثقلها لترتيب أوضاع غزة في سياق المصالحة فهي الأكثر تأهيلا لأداء دور أوسع من جلب أطراف الانقسام وإقناعهم بصيغة توافقية؛ فمن غير مصر يمكن أن يتحدث عن غزة ورام الله في سياق تسوية طموحة يعد لها ترمب، وعلى الأرجح ألا تكون مفاجئة لمصر وأخواتها.
هذه هي حماس في عام 2017، وستكون أكثر وضوحاً في العام الذي يليه، حيث يتقرر قبول طلب الانتساب إلى معسكر الاعتدال.