يوم الجمعة المنصرم، كان يوماً فلسطينياً بامتياز. لم يحرّض أحد أحداً على الخروج إلى الكافتيريات والمقاهي، والتجمع في البيوت، لمشاهدة مباراة الجزائر مع السنغال.
الأعصاب مشدودة كل وقت المباراة، والتعليقات وحتى التأفُّفات واللعنات لا تتوقف، حين يخفق أحدهم في تسليم الكرة أو الاحتفاظ بها.
الفريق الجزائري لعب كل الوقت، وخاض سبع مباريات، وكان الأفضل إلاّ في المباراة النهائية، حيث شاب الأداء، الكثير من الأخطاء، وكان أداء الفريق المنافس أفضل، لكن النتيجة بفوز فريق الجزائر كانت استحقاقاً بالنظر لما قدّمه خلال كل المباريات.
ربما كان سبب هبوط الأداء، ذلك الهدف الذي هزّ شباك الخصم السنغالي في الدقائق الأولى من الشوط الأول، حيث جعل الفريق يتحصّن أمام مرماه، لضمان عدم استقباله لهدف من الخصم.
لعب الفريق الجزائري على المرتدات، وتحصّن خلف جدار سميك قوي من الدفاع الذي استبسل في مهمة منع الخصم من الاقتراب إلى خط الثمانية عشر وتسجيله هدفا.
لكن قوة الفريق الجزائري لا تكمن فقط في مهارات الحصانة أو حتى في الخطط التي اتبعها مدربه، ولا حتى في اختيارات اللاعبين وإنما الأساس في تماسك الفريق، وفي الحصانة الوطنية التي يتعبّأ بها وفي اعتزازه بالعلم والوطن، وكرامة الشعب الذي أوكل لفريقه، مهمة تحقيق الفوز. في مسابقات كوبا أميركا، حصل فريق النجوم الأرجنتيني، على المركز الثالث، ولم يكن أحد يشك في قدرات كل لاعب، وأغلبهم نجوم كبيرة في النوادي التي يلعبون فيها.
يفشل نجوم الأرجنتين حين يكونون في الفريق الوطني، وهذا ما حصل قبل ذلك بأشهر قليلة في العاصمة الروسية، ويفوزون بالألقاب الكبيرة حين يتفرقون ويلعبون في نوادٍ غير وطنية.
هنا المشكلة تتعلق أولاً بمدى انسجام الفريق، وطغيان الفردية على العمل الجماعي والوطني وكأنهم ليسوا معنيين بمكانة وسمعة بلادهم.
وربما كان الخطأ الأكبر في اختيار المدرب الذي يفتقد إلى الخبرة التي تفوق خبرة اللاعبين والذي يفتقد إلى الكاريزما التي تعبئ اللاعبين وتشحنهم بالوطنية وترغمهم على الانضباط للحظة.
أُراهن أن الفريق الأرجنتيني كان، سيفوز بكأس كوبا أميركا، وكأس العالم، لو أن قائده ومدربه كان دييغو سميوني الذي يقود فريق أتلتيكو مدريد منذ أكثر من سبع سنوات. مقاتلون كانوا لاعبي أتلتيكو مدريد كل الوقت رغم افتقارهم لنجوم من الدرجة الأولى إلاّ غريزمان، وكان الفريق الجزائري، أيضاً، فريق "مقاتلو الصحراء"، ولذلك حققوا الفوز.
أعتقد أن الدرس الأول الذي أردته من وراء هذا الاستعراض قد أصبح واضحاً تماماً، إن كان المقصود من ذلك إسقاط ذلك على الحالة الفلسطينية ليس في مجال الرياضة، وإنما في مجال السياسة والإدارة والحياة والكفاح.
فريق "مقاتلو الصحراء"، حققوا الفوز في كأس أمم إفريقيا للمرة الثانية والأولى كانت العام 1990.
في العام 1990، كانت الجزائر قد دخلت في أزمة عميقة واسعة مؤلمة، عمت خلالها الفوضى، وكانت بداية لصراع مرير مع الإرهاب الأسود.
نحو عقد من الزمان استمر ذلك الصراع وذلك الصداع، عرف الشعب الجزائري خلالها أفظع الجرائم، وأشكالا من القتل الفردي والجماعي، الذي لا يضاهيه، سوى الإرهاب الذي تمارسه في هذه المرحلة "داعش" وأخواتها.
كل على طريقته احتفل الجزائريون بتحقيق فريقهم الفوز العام 1990، وكان مشهد الدماء الغزيرة، جزءاً أساسياً من المشهد، لكن المحصّلة أنه من رحِم المعاناة، يشتق الأبطال بإصرارهم، طريق الفرح والأمل والانتصار.
ألم تتحدث الماركسية عن أن العمال والفلاحين، والفقراء هم أداة، الثورة الاشتراكية، لأنهم لا يخسرون شيئاً، إلاّ فقرهم؟
الفوز الأخير الذي حققه فريق "مقاتلو الصحراء" جاء في مناخات مختلفة، وكأنه يبشر بمستقبل مختلف، مستقبل أفضل للجزائر والجزائريين. يقاتل اللاعبون بدافعية وطنية جماعية، وكأنهم يمثلون الشعب، الذي لم يتوقف عن الخروج إلى الشوارع مطالبا بالتغيير وبمحاسبة النظام السابق الذي يتهمه بحاضنة الفساد.
من يعرف شعب المليون ونصف المليون شهيد، يعرف أن الإنسان الجزائري خشن، وأنهم عروبيون ومؤيدون لفلسطين وشعبها، مثل الفلسطينيين أو أكثر، على قاعدة انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. إنه شعب حرّ جرّب الاستعمار الفرنسي لنحو مئة وثلاثين عاماً، وهو شعب وفيّ، لأن الشعب الفلسطيني، وقف منذ البداية داعماً، بما يملك، وما كان الشعب الفلسطيني يملك إلاّ القليل القليل. كان التلاميذ، الذين لا يعرفون طعم اللحم، يعودون إلى بيوتهم يصرخون في وجه آبائهم الذين لا يملكون شيئاً، طالبين التبرع بخمسة قروش، كانت يومية العامل حينذاك، لأن الأستاذ طلب منهم جمع التبرعات لثوار الجزائر.
اليوم الشعب الجزائري، يقدم نموذجاً في الوحدة وفي التمسك بأهداف التغيير، وبالطابع السلمي.
بالتأكيد تعرّض الساعين للتغيير، للقمع والاعتقال، من قبل الأجهزة الشرطية والأمنية، لكنهم أصروا على الطابع السلمي للحراك الشعبي، رغم أن المشهد السياسي يضجّ بالتنوُّع الحزبي.
وما كان للجيش الوطني أن يخون تاريخه، فيقف حامياً للحراك الشعبي وموجهاً، ومساهماً في الحفاظ على القانون والدستور، والحفاظ على الاستقرار، وتشجيع آليات الانتقال السلمي للسلطة.
في الجزائر يقدمون مثالاً آخر عن الأمثلة التي تقدمها الشعوب العربية في المشرق، ما يشكل تواصلاً مع ثورة تحررية، شكلت هي الأخرى مثالاً.
المتآمرون ذاتهم موجودون هنا وهناك والجزائر تشكل مطمعاً بما تحتويه من ثروات، ولا غرابة في أن تدّعي صحيفة فرنسية المفروض أنها مرموقة، بأن الفريق الجزائري من صناعة فرنسية.
أعتقد أن الدرس الثاني قد انتهى، أيضاً. بقي أن نقول إن مصر التي احتضنت على مدار أسابيع، مباريات كأس أمم أفريقيا، تستحق الاحترام حيث كان التنظيم رائعاً، ولم تقع أي مشكلة، وكانت الملاعب والتقنيات، تضاهي أفضل الملاعب الدولية، والغريب أن تعلن شركة الطيران البريطانية عن وقف رحلاتها إلى مصر، وكأن مصيبة تنتظر المسافرين. أليس هذا هو الاستعمار، الذي يحلم بأيامه البائدة؟