كثيراً ما قرأنا الأدب الروسي حتى حفظنا أعلامه عن ظهر قلب، وما زلنا نحب أن نقرأ لهؤلاء العمالقة الذين منحونا جزءاً من عوالم تلك البلاد. لكننا كقراء أو أدباء عرب لم نقرأ لآخرين من أبناء جلدتنا عن تلك البلاد أو تلك الحقبة التي عاشها الموطن العربي داخل الاتحاد السوفيتي. وهو ما يمنح القارئ شعوراً بالسعادة أن يقرأ رواية كشتان بشغف. حيث صدر مؤخراً عن (مكتبة كل شيء) بحيفا رواية كشتان للكاتب والباحث علاء أبو عامر، في رواية من القطع المتوسط في 440 صفحة.
والملفت في تلك الرواية هو الغلاف الذي جاء بلوحة للفنان النمساوي إيغون تشيل (1890-1918)، وعنوان الرواية الذي جاء باللغة الروسية (كشتان) ويعني شجرة الكستناء. فكانت فاتحة قوية وجاذبة للقارئ، هذا بالإضافة إلى جمالية الغلاف والورق الذي يميز تلك الدار.
تبدأ الرواية بالإهداء إلى مريم، الابنة أو الأم أو كلتاهما، ثم تحاول تلك الرواية مراوغة القارئ من أن تلك الأحداث محض خيال، عدا بعض الأماكن والمسارات التي جال فيها الكاتب. وهو ما يمنح الروائي القدرة على التهرب من كثير من الأحداث والمواقف التي أشار إليها خلال السرد. ورغم أنني أرفض مبدأ التأويل الببلوغرافي للنص، وإسقاط شخصية الكاتب والأحداث على الأبطال، إلا أنني بحكم معرفتي بالقليل من كفاح الكاتب أبو عامر، أدركت أن هناك الكثير والكثير من الحقيقة داخل تلك اللوحات الفسيفسائية العميقة والنصوص الملهمة، تماماً كالخيال الذي يختبئ بين حروفها ودروبها. لذا راودتني أسئلة كنت أود لو أطرحها أمام الروائي علاء أبو عامر لو كان موجوداً في غزة الآن. ترى كانت (سلمى) المفترضة ستقبل بنشر هذه الرواية لو بقيت على قيد الحياة؟ خصوصاً فيما يتعلق بصوفيا؟! ترى هل ستحضر صوفيا حفل التوقيع في رام الله قريباً؟ وما هو شعورها حين ترى عز الدين؟!
أثق تماماً أن القلب سنبض لحظتها بقوة لو حضرت، سيصير عز الدين في وضع حرج لأن قلبه ليس ملكاً له، كذلك صوفيا الافتراضية وزوجها علي، هل ستحتضن صوفيا عز وتبكي؟ هل سيغفر لهما علي ذلك؟ ربما لن يفهم القارئ ما أسعى للوصول إليه إلا حين ينتهي من قراءة تلك الرواية الآسرة.
ماتت سلمى الأفغانية بمرض السرطان بعد أن جعلت ذلك الشاب اليافع مجنوناً يقاتل بشراسة من أجل عينيها. فيما انسحبت صوفيا إلى مربع بعيد عن كييف لأنها أدركت أن عز الدين ترك كل النساء من أجل سلمى الأفغانية، تلك الفتاة التي خسرت الكثير لتعلقها بذلك الفلسطيني في كييف. لكن الأقدار هي من جعلت عز يتحدث مع امرأة داخل القطار (ألفيرافاسليفنا) فتقف معه كما وقفت مع غيره، لتصير قصة هذين الشابين أيقونة تدفع بالأفغانيات البوح بحبهن لغيرهن من غير الأفغان دون خوف من ضياع المنحة الدراسية كما حدث مع سلمى.
تبدأ رواية كشتان وهي الشجرة التي تملأ شارع الكريشاتيك، الشارع الرئيسي في قلب العاصمة الأوكرانية كييف، والتي سميت به تلك الرواية لأهمية ذلك الشارع على أحداث الرواية. حيث أمضى الروائي دراسته الجامعية هناك وعاش عدة قصص حب ووله وعشق مع فتيات عدة، صوفيا وسيليا، إلا أن سلمى بقيت العلاقة العفيفة حتى الانتصار والعودة لمقاعد الدراسة والزواج.
عاش الطالب الفلسطيني عز الدين في كييف بعد عودته من الجبهة حيث قاتل في لبنان ضد الغزو الإسرائيلي عام ١٩٨٢ ثم يتعرف الكاتب في سنواته الجامعية الأولى على الإيطالية صوفيا ثم سيليا من كوستاريكا وبينهما سلمى الأفغانية.
حاولت الرواية الحديث عن العلاقات الإنسانية بين الشاب المغترب والذي يمثل شريحة كبيرة من الشباب الفلسطيني المطارد في أصقاع العالم، فمن علاقة عشق جسدي بين عز وصوفيا وصولاً للتعرف على سلمى التي تبوح له بحبها بعد مشاجرة بينها وبين قريب لها داخل سكن الطلبة، وبعد ترك عز الدين لصوفيا التي كشفت للأخير عن علاقتها بنادر الشرقي الغيور. ثم في ظل حالة التيه وطرد سلمى من الجامعة وسحب منحتها يتعرف بطل الرواية عز الدين على سيليا التي تستجدي عز ليعيش معها ويحظى بجنسية بلادها، وهي التي من أسرة برجوازية وأبيها رئيس حزب كبير هناك. تماماً كصوفيا التي عرضت على عز لاحقاً ألا ينتظر سلمى والعيش معها ثم الحصول على الجنسية الإيطالية. إلا أن عز يبقى يقاتل لإعادة سلمى التي خسرت منحتها الدراسية من أجله.
تحاول هذه الرواية البوح بحالة التيه بين الأقدار والمبادئ التي عاشها هذا البطل، حالة الحب والمصلحة وتنازل الأبطال من أجل ذلك القدر. تنتقل من البطل في الاتحاد السوفيتي إلى لبنان وسوريا، إلى الاعتقالات والحصار والهجرة والخوف ووو.
في هذه الرواية عنصر التشويق يستمر بالقارئ حتى يعيش حالة الحزن والبكاء، ثم الفرح والحرية، حين يحقق عز انتصاره ضد كل من حاربوه في سلمى التي يكشف لنا عن موتها في نهاية الرواية بمرض السرطان.
ما يميز هذه الرواية هي البيئة التي يعيشها الأبطال والقراء، كذلك عنصر التشويق، اللغة والعمق والفلسفة التي يمنحها الكاتب لقرائه من خلال بعض المواقف.
رواية كشتان رواية ملهمة تستحق الاهتمام.