الخريف لم يبدأ بعد، ولكن خريف السياسة الأميركية بدأ مبكراً، فقد تساقطت أوراق توتها من على منصة البيت الأبيض، الأربعاء الماضي، وظهرت عارية تقدّم نفسها لإسرائيل بابتذال لم يفعله أي رئيس أميركي سابق، كيف تجرأ رئيس، أقل ما يقال: إنه أرعن، أن يشطب بجرة قلم كل إرث السياسة الأميركية، معانداً الجغرافيا والتاريخ والمجتمع الدولي والكون، ليعلن أن القدس عاصمة لإسرائيل؟
تعاني الولايات المتحدة منذ عقود من اتساخ صورتها في العالم العربي وهي تجتهد لتنظيف هذه الصورة، وقد وفرت لها إدارة عملية التسوية في العقدين الأخيرين نوعاً من الحضور الذي ساهم إلى حد بسيط في تقبل دور ما، وقد جاء الرئيس أوباما هدية السماء لهذه الدولة بعد بوش حين قرر الابتعاد قليلاً عن الإقليم وبدا في لحظة ما أنه يقف على الحياد بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، تحسنت قليلاً صورة الولايات المتحدة، ومع أحداث الاضطراب في الإقليم تراجع العداء لها، عندما ظهر العدو من الداخل، في الوقت الذي نأت فيه واشنطن بنفسها عن التدخل.
بدءاً من الأربعاء الماضي، عادت الصورة المتسخة .. الدولة الداعمة للاحتلال والتي تغطي سرقته للأرض بل وتجرأت على المساس بقدس الأقداس التي تخص كل المسلمين في العالم. مسيرات جابت معظم العواصم ليس فقط العربية والإسلامية بل وأيضاً الأوروبية، حرقت الأعلام الأميركية في مشهد لا يتمناه أي أميركي – يحاول أن يعيش بعيداً عن الكراهية - مع تجدد الهتافات التي غابت لسنوات طويلة ضد الولايات المتحدة الأميركية من ماليزيا شرقاً حتى المغرب غرباً، كلها كانت تجوب الشوارع، تجدد كراهيتها لأميركا والرئيس الأميركي الذي خدعه نتنياهو حين أبلغه بأن الأمر سيمرّ بسلام ويبدو أن أميركا ستحتاج وقتلً لتعرف أي مغامرة أقدم عليها رئيسها وحجم خسارتها.
لا يهمنا كثيراً ما تفعله أميركا بنفسها وقد يكون هذا مهماً لكاتب أميركي مثل توماس فريدمان أصيب بصدمة لم يصدقها بعد خطاب ترامب متسائلاً: لماذا يقدّم ترامب هذه الهدية مجاناً لإسرائيل ولم يتركها إغراء للتسوية؟ ويجيب: لأنه أحمق وجاهل، ولأن الولايات المتحدة فقدت دورها في عملية التسوية، تلك العملية كما سبق ساهمت إلى حد ما بإظهارها كدولة حريصة على السلام والآن تظهر حرصها على الاحتلال ولا يمكن قول غير ذلك، إنها الحقيقة التي تتسبب بحرق الإعلام الأميركية فلتدفع ثمن ذلك.
ما يهمنا هنا هو المستقبل الفلسطيني والسياسة الفلسطينية بعد الخطاب، فقد وجهت أميركا ضربة لدورها بتبنيها الرؤية الاسرائيلية بحرفيتها، ولم يعد هناك متسع للحديث عن السلام، وواهم من يعتقد أن هذه الإدارة الموغلة في إسرائيليتها حد الفضيحة يمكن أن تصلح لأن تكون إدارة لأي تسوية أو سلام وهذا ما فهمه الفلسطينيون أخيراً بعد خُمس قرن تأكد الآن أنه وهم.
ومع انغلاق مسار السلام على الجانب الآخر، فإن مسار الصدام المسلح لا يظهر كبديل برنامجي ممكن أن يستله الفلسطينيون بعد تجربة الحروب الأخيرة على غزة، خصوصاً أن هناك إدارة في البيت الأبيض ستقف إلى جانب إسرائيل حتى في الحرب، بل وربما في التصعيد العسكري إذا ما غامر الفلسطينيون تحت ضغط اللحظة باللجوء ما يجعل إسرائيل ضحية للصواريخ الفلسطينية وتصبح الحرب هي أولوية العالم بدلاً من القدس والتظاهرات التي تنتشر وتتزايد في الأراضي الفلسطينية ومدن العالم بسببها.
الحرب مهما طالت في النهاية تنتهي بتهدئة ويبدأ الفلسطينيون بمعالجة آثارها وتكون القدس قد عادت للوراء ومرّ القرار الأميركي، وهذا ما لا يريده أي فلسطيني. لذا فإن السياسة هنا يجب أن تحسب بميزان بائع الذهب وفي اللحظات الصعبة تحتاج إلى عقل بارد يجري حسابات الربح والخسارة بعيداً عن العواطف وعن ضغط الرأي العام.
نحن بحاجة إلى انتفاضة متدرجة ومتدحرجة، فالصور التي تنبعث، منذ الخميس الماضي، تعيد تظهير حقيقة الصراع بعد أن اختلت الصورة بفعل المفاوضات التي أظهرت أن هناك سلطتين تتفاوضان على قطعة أرض وتحاولان إيجاد حلول ولا داعي لضغط أو تدخل دولي، الآن يجب إعادة تظهير الحقيقة أن هناك شعباً تحت الاحتلال ودولة احتلال تصر على استمرار السيطرة بالقوة المسلحة.. إنها صورة الجندي المدجج الذي يلاحق أطفال الحجارة، بحاجة إلى انتفاضة سلمية يقف فيها السلاح جانباً ولا تسمح لإسرائيل بأن تبدو ضحية للحظة.
بل إن الانتفاضة غير المسلحة أصبحت ضرورة اللحظة التاريخية مع انسداد الآفاق أمام الفلسطينيين، سواء السياسي منها أو العسكري، كما تاريخ الانتفاضات السابقة. فعندما كانت تنعدم الخيارات كان الشعب ينهض من بين ركامها ليقدّم البديل، هكذا كانت الانتفاضة الأولى بعد التشتت من بيروت وتراجع القضية كانت تعيد إحياء القيادة المنفية، وكذلك الانتفاضة الثانية عندما عاد ياسر عرفات بلا شيء من كامب ديفيد وانغلق أفق السياسة ولكن بين الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية فارق كبير.
فالانتفاضة الأولى والتي كانت سلمية جعلت دولة إسرائيل تجثو على ركبتيها باحثة عن حل سلمي ومخرج لمأزق كان ينكشف أمام العالم لدولة تقاتل شعباً وتصادر حريته وتطارده في الشوارع، وكان لها ارتداداتها في الداخل الإسرائيلي سواء بتشكيل أحزاب عربية أو لجهة خلافات البحث عن حل أو اهتزاز ثقة الجيش والجندي بنفسه، وهو الذي جرى تدريبه لحروب مع الأعداء وإذ به يطارد صبية في الشوارع يتلقى شتائم وإهانات وعاجز عن استعمال ما لديه من أسلحة. هكذا أرغمت إسرائيل على فتح حوار مع منظمة التحرير وفتحت أفقاً سياسياً.
لكن الانتفاضة الثانية والتي تم تسليحها مبكراً وجد الفلسطيني نفسه ينجر إلى الملعب الإسرائيلي العسكري يواجه بسلاحه المنزلي دولة من أعتى الدول العسكرية. وهكذا أضاع كل منجزاته وبدل من أن تدخل إسرائيل في مأزق باحثة عن حل سياسي وجد الفلسطيني نفسه يدخل في عنق زجاجة ويبحث عن حل سياسي، ولكن هذه المرة بدا كأنه فقد البوصلة ولا حل ليتبدد أكثر من عقد ونصف العقد من عمر الشعب ويمكن تسميتها سنوات التيه.
إن إطلاق الصواريخ من غزة قد يفتح حرباً جديدة يمكن أن تجهض المسيرات واشتباكات الشوارع في الضفة الغربية، وأن يجهض انتفاضة هي في لحظة الولادة ويجب أن تعطي فرصتها لأن الحرب نهايتها تهدئة ويكون التضامن العربي والدولي قد هدأ بعد الحرب .. فلنحذر هذا السيناريو ونفكر بعقل هادئ ..الآفاق مغلقة والقوة التي تواجهنا غاشمة حقاً وهذا يحتاج إلى فتح جدار الأفق من جديد بعقل هادئ لا بعقل انفعالي، لا خيار سوى انتفاضة شعبية غير مسلحة، تحشر إسرائيل المدللة ومربيتها الولايات المتحدة أيضاً، وحتى تستمر التظاهرات ضدهما في كل مدن وعواصم العالم تحرق الأعلام وتشحن توربينات الكراهية لتتحمل أميركا مغامرات ترامب.
المفارقة التي تجسدت في مدينة السلام بيت لحم بينما كان الفلسطينيون يتحضرون لأعياد الميلاد أطفئت شجرة الميلاد حزينة، وبينما كانوا ينظفون شوارع المدينة كانت إسرائيل ترش مدينة المسيح بمياه الصرف الصحي. من المهم أن يرى العالم ذلك ويجب استغلالها إعلامياً وممنوع إفساد تلك المشاهد تحت لحظة انفعال..!