كل الدول والشعوب والأفراد تقف على عتبة المحطات تتأمل ذاتها ومع نهايات الأعوام تقوم بجردة حساب لما أنجزت وأين أخفقت، تستفيد من التجربة، تقيّم نفسها لتنطلق نحو محطة جديدة تكمل سيرتها وتاريخها.
كل العالم يفعل ذلك، فنجد الإحصاءات ومستوى التعليم والصحة والعلاقات الإقليمية وقوة نظامها السياسي.
هكذا تفعل إسرائيل الخصم الأبرز للفلسطينيين التي تنشر تقاريرها السنوية وتبنى على ما تراكم ومثلها كل الدول التي تريد أن تضع لنفسها وشعوبها مستقبلاً، لكننا نحن الفلسطينيين نسير بلا هدى، كل شيء لدينا بدون حسابات ولا تخطيط، ندير السياسة بما يشبه العفوية والفهلوة أحياناً ولا نخطط حتى لشهر واحد قادم.
غارقون في خلافات وخلافات ونصاب بالدهشة من تراجعنا وكأننا حتى لم نفهم أسبابه.
هذا العام كان الأصعب ربما، وانتهى شهرُه الأخير بانعدام الأمل السياسي وإعلان الوسيط الأميركي أن القدس عاصمة لإسرائيل، وتلك النهاية كانت بادية للمشتغلين في السياسة لو بذلوا قليلاً من الجهد في قراءة الإدارة الأميركية منذ تشكيلها نهاية العام الماضي، لكن العفوية التي باتت أساس الفعل السياسي لم تقرأ ذلك، وإلا لكان السلوك مختلفاً وإدارة القضية مختلفة، ولخرجت من حالة الانتظار التي باتت السمة الوحيد لعمل الساسة.
تسأل أحياناً وسائل الإعلام المحكومة أيضاً بالعقل الفلسطيني هل أن قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيشجع إسرائيل على الاستيطان والسيطرة عليها؟ في السؤال ما يعتقد أن إسرائيل تعمل بعشوائية مثلنا وأنها تنتظر شيئا خارجياً يحدد لها السياسة، فإسرائيل تعرف منذ عقود ما الذي تريده من القدس ولديها مخططات جاهزة عملت عليها منذ سنوات طويلة، ومشروعها بالسيطرة على القدس يسير وفق خطط عمل منظمة، ولا تعمل سياسياً بردات الفعل أو باللحظة العاطفية التي يولدها قرار رئيس أميركي.
لا أحد سيستوقفه الراهن وعمق المأزق الذي تمر به القضية الفلسطينية، لأن المراجعة تستوجب الوقوف على إخفاقات تبدت مع نهاية العام، وتلك الإخفاقات قد تفتح باب الحساب أمام الإدارة العشوائية للملف، لأن الإخفاق له أدوات ونتيجة المحاسبة ستكون بإزاحة هذه الأدوات التي ضللتنا إلى الحد الذي اعتقدت أن الرئيس ترامب لن يفعلها، هذا إذا لم نضع الحالة الفلسطينية برمتها لنكتشف أنها سارت في العام الأخير على سلم بياني ثابت الهبوط.
عمق المأزق يتجلى بانسداد الأفق مرة أخرى أو وصوله للانسداد الأكبر، فلا عملية تسوية بل لا نتمنى أن تتقدم الولايات المتحدة بها، ولا عملية كفاحية ولا بناء نظام سياسي ولا مصالحة تحققت، ولا استيطان توقف، ولا شيء لدينا ممكن أن يفتح باباً في الأفق، والإحباط السائد بين الشعب ومشتغلي السياسة بات يحكم المزاج العام فلسطينياً، هكذا الأمر مع نهاية العام.
كيف وصلنا إلى هذا؟ هو السؤال الذي يغيب عن كل الدوائر أو تغيبه متعمدةً مراكزُ الدراسات وصنع القرار، وبدلاً من ذلك يستخدم خطاباً شعبوياً على أمل أن يغطي على كل الأسئلة والاخفاقات التي صاحبت مسيرتنا في السنوات الأخيرة وحشرتنا في الزاوية في العام الأخير وضبطتنا متلبسين بالعجز عن الفعل، فلا أحد لديه برنامج ولا أحد يعرف ماذا سنفعل سوى الانتظار لحل يأتي من السماء يخرجنا من هذه الورطة لكنها لم تفعل، فلا سياسياً قادرون على الخروج والانطلاق، ولا عسكرياً لدينا ما يفتح نافذة السياسة، ولا جماهيرياً بعد كل هذا الذي حدث قادرون على تحريك الشارع الذي بات ميدان مراهنتنا الوحيد بعد أن عجزت كل أدواتنا.
لا تكمن المشكلة بأننا لم ننتبه لخطورة إدارة ترامب وفريقه الموالي لإسرائيل وقد فاتتنا تلك دون أن نجهز للحظة، ولكن حتى الآن لا يبدو أن هناك من يفكر بالمراجعة التي يمكن أن تستولد ما يمكن عمله، فالجميع ينتظر القادم بسلبية لا مثيل لها، وهي مدعاة للخوف أكثر أمام قضية بهذا الحجم وهذا الوزن والتي تتطلب فعلاً مبادراً لا ردود فعل تقررها أطراف خارجية في القضية الوطنية، فذلك هو واحد من أبرز معالم الضعف.
وعلى المستوى الداخلي، فإن الأمر أكثر صعوبة هذا العام ينتهي دون أن نتمكن من إنهاء الانقسام الذي يعتبره نائب رئيس الأركان الإسرائيلي يائير غولان بأنه يشكل ذخراً أمنياً لإسرائيل، معتبراً أن عدم وجود وحدة بين الفلسطينيين والفصل بين الضفة وغزة هو شيء مهم للأمن الإسرائيلي، وواضح أن تصريحاً كهذا يعكس أننا نسير وفق مصالح إسرائيل الأمنية، وواضح أنه يعطينا شهادة الفشل على سياستنا القائمة.
مع نهاية العام، لا أحد يقول إن لديه ما يمكن عملُه، ومع نهاية العام لا أحد يقول إننا نجحنا في كذا وعلينا البناء عليه، ولا أحد يقول إننا أخفقنا في ملفات معينة وعلينا الاستفادة منها ومحاسبة من تسببوا بهذا الإخفاق، لأن المراجعة تستدعي المحاسبة ومحاسبة القائمين على هذا الوضع، هذا يعني أننا سنستمر في التغطية على كل هذا الفشل القائم.
حالة التيه التي أصبحت تلف المشروع الوطني لا مثيل لها منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، فعلى امتداد تاريخها دائماً ما كانت تعرف خطوتها القادمة ومسارها القادم، كانت القضية الفلسطينية وأدواتها أصحاب مبادرة تجر العالم وتحدث كل هذا الضجيج، الآن يبدو أن كل شيء توقف. انغمسنا في صراعاتنا إلى هذا الحد .. وبات المشروع الوطني يسير على غير هدى.. هذا يحصل للشعوب التي لا تجيد التخطيط عندما تنعدم مؤسساتها وتنعدم وسائل القياس والمحاسبة، وهذا ما حصل عندنا.
سندخل غداً عامنا الجديد دون خارطة طريق كعادتنا في الأعوام السابقة، كل شيء يسير لدينا بلا تفكير أو تدبير، لذا فإن الخشية في العام الذي نفتتحه مع هذه الإدارة أن تستمر في خططها التي قررتها إسرائيل مسبقاً في مراكز التخطيط لتصبح سياسةً أميركية ونحن نستمر في هبوطنا كما السنوات القادمة .. فهل من يصرخ فينا بقوة قائلاً «ما هذا»؟