وبدلاً من المطار جنوب القطاع تعطي إسرائيل للفلسطينيين مستشفى شماله، هكذا الأمر ببساطة، فالقضايا الإنسانية بديل عن القضايا ذات البعد الوطني والسيادي في ظل صمت الجميع، فقد حسم موقع «جويش نيوز» أمر المستشفى الذي يتم إنشاؤه قائلاً إنه «باستخدام البنية التحتية لمستشفى عسكري للجيش الأميركي تم إنشاؤه قبل بضع سنوات على الحدود مع سورية، وأن منظمة الصداقة الأميركية هي من تبرع بالمعدات.
قطر تبرعت بمليون دولار لبناء المشفى، وهي الوسيط بين حركة حماس وإسرائيل، وهي مَن كانت ربما وسيطاً للقوى الإرهابية في سورية، والتي كان يتم علاج مقاتليها في نفس المستشفى، وقد عرض التلفزيون الإسرائيلي بعض الحالات التي تعالجت هناك سابقاً، ولا شيء يسير خارج الرغبة الاسرائيلية، فتلك دولة كل شيء لديها محسوب بدقة.
مخطئ من يظن أن المستشفى الذي يتم تشييده خارج خطة الفصل الإسرائيلية لقطاع غزة ، ومخطئ من يظن أن المستشفى فقط هو ما يرسخ عملية الفصل. فالعملية تسير بهدوء، وإسرائيل ليست في عجلة من أمرها، والأمر يتم بالتراكم والواقع على الأرض، فالتغيرات التي جرت وتجري تباعاً تجعل إعادة الوحدة بين الضفة وغزة ضرباً من الأحلام.
ما يتم إنشاؤه شمال القطاع أصبح أمراً واقعاً في ظل التلعثم الذي يسيطر على الجميع. فحركة حماس التي تفعل أي شيء لترسيخ الحكم حتى لو كان المستشفى إسرائيلياً أو أميركياً، لكنه يساهم بتخفيف الاحتقان والأزمة الصحية التي يمر بها القطاع، والتي تعد أحد أسباب غضب الرأي العام على حماس، أما السلطة التي يفترض أنها صاحبة الولاية على الأرض وفقاً لاتفاقيات أوسلو والتي يعتبر المستشفى مساساً بسيادتها أيضاً، تبدو كمن في فمها ماء، وإن كنا نعرف أنه لم يجرِ التشاور معها أو رغماً عنها.
وإذا كانت حركة حماس تسلم لقطر البعد الخارجي للسياسة أو تحديداً بما يتعلق بالوساطة مع إسرائيل، فالسلطة لاذت هي الأخرى بالصمت بعد أن كان الصوت عالياً قبل أسابيع حين أعلن عن المستشفى.
وإذا كان ما يتم إنشاؤه كما يردد الرأي العام أنه قاعدة عسكرية أميركية، فالقواعد الأميركية تنتشر في العديد من الدول وتحديداً في دول الحلف كقاعدة إنجليرليك في تركيا والعيديد في قطر، و»حماس» ليست استثناء، ولكن آن الأوان أن تتوقف عن اتهام الآخرين، فالكل أصبح سواء يتلقى المعونة من ألد الأعداء، وإن كانت الأزمة الصحية للمواطنين في غزة تقصم الظهر بعد أن أدار الجميع ظهره لهم ووصلت استغاثتهم للسماء.
شيء ما يُعَد في الخفاء، لكنه شديد الوضوح إذا ما أمعنا النظر بكل ما يجري على الساحة الفلسطينية التي تبدو وكأنها قد فقدت توازنها واختلت معاييرها حد الإصابة باللوثة. فلو كانت السلطة تحكم غزة ويقام في مناطق سيطرتها مستشفى أميركي لثارت ثائرة «حماس» ربما حد القصف، «مع ملاحظة قطع التمويل الأميركي عن مستشفيات الضفة و القدس » وسكوت السلطة إلى هذا الحد والفصائل الشريكة بغزة التي تعلن «حماس» موافقتها، باعتبار أن ما يجري من تسهيلات وامتيازات تم بالتوافق معها، لكنها تحاول التملص بصوت خافت لم يفهمه من قبل، وهكذا تتكرر الحالة إلى الدرجة التي يبدو فيها أنه تم تطويع الجميع وأصبح الفاعل خارجياً.
للجميع في الساحة الفلسطينية علاقات خارجية شديدة التأثير باستثناء قوى صغيرة لم يشجع وزنها ولا فعلها على الأرض أي طرف من الأطراف على التعاطي معها، وحتى صفقة القرن التي تصدرت المواقف السياسية للأعوام الثلاثة الماضية تبدو كأنها تبخرت، وواحدٌ من أسباب ذلك هو الفراغ السياسي الحاصل في إسرائيل، واختفاؤها يعني أن يترك للإسرائيلي أن يهندس كما يشاء ويرسم ويخطط وينفذ ويستدعي من الإقليم من يشاء، حتى نفتالي بينيت وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد شديد التطرف بات يوافق على كل شيء شريطة ألا يكون الممول إسرائيلياً، ولكن إسرائيل حتى في هذا باتت تستدعي أموال العرب لتمرر مخططها علينا.
المستشفى سيقدم خدماتٍ صحيةً غزة بحاجة لها وسط هذا الإغلاق الطويل، وتلك باتت مسألة لا يمكن احتمالها ربما دعت الجميع وأولهم إسرائيل للبحث عن حل لتنقل مشفاها، بعد أن انتهت الأزمة السورية وأصبح فائضاً، ولكن من يعتقد أن المستشفى الذي يقام أو غيره من المؤسسات حتى الخيرية منها لا تقدم خدمات استخبارية فهو مخطئ، فنحن في عصر المعلومة، ومن يعتقد أيضاً أن مستشفى أميركياً لا يتواجد فيه جنود أميركيون للحماية من أي هجوم ومسلحون أيضاً فهو مخطئ. قد لا يظهر ذلك، ولكن منطق الأشياء ارتباطاً بسياق التجارب يشي بالأمر.
أن يجري بناء مستشفى بسيادة أميركية على أرض غزة دون صلاحيات للجهة ذات الولاية «السلطة» ودون صلاحيات للجهة المسيطرة «حماس»، فهذا كثير ومثير للكثير من الأسئلة في سياق المشروع الإسرائيلي، لكنه أيضاً يعني أكثر فقدان الفلسطيني لسيادة القرار وترك الأمر للاعبين الكبار أن يفعلوا ما يشاؤون في غزة تحت بند التدخل الإنساني لنكتشف أن ما يحدث تنفيذ للسياسة المرسومة منذ ثمانينات القرن الماضي. وعلينا أن نسأل الآن: كيف انقسمنا؟ ومن تلك الدولة التي دعمت مشروع الانقسام وما علاقتها بالمستشفى أو القاعدة؟ لا جواب لأي سياسي، أو أن هناك إجابات لا يرغب أحد في قولها ...!