هل نحتاج أكثر من التفسيرات التي قدمت لحركة التاريخ في المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة، أم أن الواقع أكثر وضوحاً؟ لو وضعنا الأحداث على سلم بياني للقياس لن نجد سوى هبوط وتراجع للقضية الفلسطينية ومزيد من التنكر الإسرائيلي والدولي وعنجهية أميركية خدعتنا كوسيط للتسوية، لكنها لم تكن أكثر من مترجم لإسرائيل، بل وأبعد داعم قوي في مواجهة مشروع وحلم الفلسطينيين.
كيف حدث وانزلقنا الى ذلك؟ هل كنا نجسد شخصية وسذاجة تشمبرلن قبيل الحرب العالمية الثانية؟ أم أن البيئة الإقليمية والدولية كانت أشد قسوةً وأكثر سطوةً من الإرادة الفلسطينية؟ وهو ما كان يغمز باتجاهه الزعيم التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات مبرراً الذهاب نحو خياره بأن العالم كان يتغير في غير صالح الفلسطينيين والعرب، وخلاصة التجربة تقول «قبلنا بالهم ولكن الهم لم يقبل بنا» وسط هذا الانحدار الكبير.
لا نحتاج الى الكثير من الدلائل لمعرفة أن خيار الدولتين أصبح جثة هامدة، وأن إمكانية عودته للحياة تحتاج الى معجزة مستحيلة، ولا نحتاج للكثير لمعرفة أن ثقافة النظام السياسي في إسرائيل في السنوات الأخيرة هي ثقافة الضم والسيطرة والتخلص من ارث التسوية باتجاه آخر، ولن نحتاج الى الكثير لنعرف أن الانزياح الذي حصل في إسرائيل في السنوات الأخيرة باتجاه اليمين جعل من الضفة الغربية موضع استهداف غير قابل للتراجع في ظل البيئة السياسية الإقليمية والدولية، بل إن تلك البيئة تحولت الى عامل مساعد لتتمكن تلك الثقافة من تجسيد نفسها بخطوات لم تعد تجد معارضة دولية وان كانت فهي بشكل خجول جداً.
خطوات الحكومة الإسرائيلية متسارعة كأنها تلاحق الزمن بخطوات صادمة في الضفة، فلا يكاد يمر يوم دون أن نسمع عن وحدات استيطانية أو إنشاء مستوطنة أو مصادرة أرض أو هدم بيوت، وآخر ما أعلن عنه الوزير المتطرف نفتالي بينيت الذي وفرت له وزارة الدفاع فرصة المسؤولية عن الضفة الغربية باعتبارها تتبع وزارة الدفاع، فوفرت له الفرصة لتطبيق حلمه التاريخي ليعلن نهاية الأسبوع عن إنشاء سبع محميات طبيعية بواقع 130 ألف دونم منها كما تكتب صحيفة هآرتس، 20 ألف دونم أراض خاصة للفلسطينيين والباقي طبعاً أراض تمت السيطرة عليها بقوة الاحتلال كأراضي دولة. كما شمل القرار توسيع اثنتي عشرة محمية قائمة، وهذا القرار هو الأول من نوعه الذي يصدر منذ توقيع اتفاقيات أوسلو بين الجانبين، في اشارة حادة من قبل اليمين بأن تلك المرحلة أصبحت جزءاً من الماضي.
هذا يعني بعيداً عن صناعة اللغة والجُمل الانشائية، أن الحلم الفلسطيني آخذ في التبخر، بل يجري اعادة تصميمه وفقاً للرؤية الاسرائيلية، اذ إن نفتالي بينيت وفي سؤال عن موقفه من حل الدولتين في كانون الأول 2017 أجاب بأن «هذا» الحل قائم، دولة غزة ودولة إسرائيل» وهذا هو بيت قصيد السياسة الإسرائيلية التي تقوم على التخلص من غزة وضم أو السيطرة على الضفة. ويكفي ما نراه من وقائع وأحداث خلال السنوات الماضية لمعرفة كيف جسدت وتجسد إسرائيل ذلك.
الظروف القائمة أحياناً تدعو للتفكير بما هو أبعد من مصادفات وقائع. فأَنْ تُجري إسرائيل انتخاباتٍ ثلاثَ مرات في عام واحد شيءٌ غير عادي، بل وأن نتائج الانتخابات الثالثة المزمع عقدها تشير الى الحفاظ على حالة الفراغ القائمة، وأحياناً يذهب التفكير نحو سؤال غير واقعي، هل هذا الفراغ صدفة وأن تستمر إسرائيل في حالة انتخابات دائمة؟
فنحن نعيش في مناخات الانتخابات الدائمة التي تدور بين أقطاب اليمين وفي ظل غياب تام ليسار إسرائيلي، وفي ظل منافسة حادة بين اليمين على الاستيطان والضم. ونجد أن ما حدث في عام الانتخابات ودعايات الجولات الثلاث قد كسر كل المحرمات التي كانت قائمة، وأحدث انقلاباً لواقع لم يكن يتصور أحد أن يصل لتلك النتيجة وبتلك السرعة، لأن كل شيء سهل في الانتخابات، ولا أحد يراجع لأن الأمر يندرج في إطار الدعاية الانتخابية، لكنها واقع سياسي شديد المرارة.
وعلى الجانب الآخر، إدارة أميركية بدأت منذ يومها الأول تجهز لانتخاباتها، ولم تجد غير إسداء الهدايا لإسرائيل كأحد أبرز أدواتها الدعائية. وهكذا وقعنا بين انتخابات أميركية وانتخابات إسرائيلية مزمنة، وفي ظل هذا انشغل الفلسطينيون فقط بالتحاور والكلام عن الانتخابات التي لن تحدث، وأثناء ذلك كانت الضفة الغربية قد ضاعت وكانت غزة قد تجسدت.
خلال السنوات الماضية، استدرجت إسرائيل الفلسطينيين الى حيث تريد، الى فصل غزة عن الضفة أولاً «بأيادٍ فلسطينية» ثم حصار غزة لتحول كل الأنظار الى مأساة إنسانية، تتجسد في تلك المنطقة الصغيرة، وحروب على غزة واعلام وفضائيات وحلول ومؤتمرات ومفاوضات وأطراف اقليمية ودولية. وصخب صاحب الأمر لم يترك حتى مجالاً للحديث عن أي شيء آخر، وتحت هذا كله كانت الضفة الغربية تُسرق بهدوء، ويتم السيطرة عليها بهدوء دون ضجيج، حتى أفقنا على المحميات الطبيعية لزيادة الترف في الضم والاستيطان... هذا هو الواقع.
الواقع أصدق تعبيراً مما بشر به نفتالي بينيت، ومن يراقب الأحداث يمكن له أن يلاحظ بهدوء كيف تتآكل السلطة في الضفة الغربية وكيف يتزايد الحضور السياسي لسلطة غزة ممثلةً بحركة حماس . وقد عبر عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح صراحة عن واقع النظام السياسي ومآلاته في الضفة حين قال «وجود السلطة الفلسطينية أصبح في مهب الريح». ربما كان هذا متأخراً ولكن من تابع مراكز الدراسات الإسرائيلية ومجريات الأحداث كان له أن يدرك ببساطة الى أين تسير الأمور. والأسوأ أن من يراقب يدرك تماماً امتلاك اسرائيل لكل أدوات الفعل وتحويلها الأطراف الفلسطينية الى مفعول به، وهذا أسوأ ما في الأمر.
وما بين هذا وذاك يبقى الفلسطينيون يدورون كما هم منذ ثلاثة عشر عاماً في حوارات مفرغة بلا نتائج، وكلما اقتربت من الوصول لنقطة معينة يقوم الإسرائيلي بالتدخل وخلق ظروف تدفع أحد الأطراف للتصلب «المال القطري والوقود القطري نموذجاً» «الإفراج عن أموال المقاصة نموذجاً» وهكذا يعود الفلسطينيون الى نقطة الصفر، والأهم أن كل المسؤولين أغلقوا آذانهم وما بين نصيحة يمكن تقديمها لمن يعتقد أنه يحرك التاريخ بأصبعه الصغير، وأنه قاب قوسين أو أدنى من الحلم، وحين يحل الوهم محل الحقيقة وتصبح الكتابة والمشورة السياسية بلا جدوى ليبدو كأن السياسة تنفصل عن الواقع، يكفي أن نستمع إلى رئيس مركز دراسات الأمن القومي عاموس يدلين الذي يقول علانية ما نعرفه جميعاً «استراتيجيتنا في استمرار الانقسام بين قطاع غزة والضفة» وهذا يُغْني عن كل ما يمكن أن يقال.