لا تتمثل الخشية من صفقة القرن في قبول المجتمع الدولي بها، فهي ليست أكثر من خطة ساخرة تشبه شخصية الرئيس الأميركي، فالعالم أعلن موقفه منها وخصوصاً الدول الأوروبية حتى بريطانيا التي بدا الخوف من مواقفها بعد الانتخابات الأخيرة وفوز المحافظين انضمت الى الرافضين في المكالمة التي جرت بين رئيس وزرائها وبنيامين نتنياهو، لأن لا أحد يعمل في السياسة يمكن له أن يؤيد هذا المستوى من العبث، وفقط لأن العرب لا يتعاطون السياسة قد نجد بينهم من يعتبرها أساساً يمكن البناء عليه، لكن الدول المنظمة ذات التاريخ والتجربة السياسية العريقة والحد الأدنى من الأخلاق لا يمكن أن توافقها.
لكن الصفقة كشفت بشكل واضح عن رؤية إسرائيل النهائية لنفسها ولمكانة الفلسطينيين تماماً. وبذلك عززت مرة واحدة الاعتقاد بأن لا حل بين الجانبين، وأن مسار التسوية الذي بدأ منذ أكثر من ربع قرن لن يصل الى شيء، وأن ما تراه إسرائيل ليس سوى مجموعة سكانية أخرى ينبغي حصرها في معازل وتجريدها من حقوقها الوطنية والسيادية والانسانية. وهذا يستدعي التأمل طويلاً بعد أن اعتقدنا أنه يمكن أن يصل الطرفان الى حل يتضمن جواراً هادئاً بين دولتين.
الخطة ساخرة حقاً، وسأضرب مثالين عما جاء فيها. الأول: أن إسرائيل لن تسمح للفلسطينيين بالوصول الى المياه الجوفية حتى تحت الأراضي الفلسطينية دون اذن منها ولكن يحق لإسرائيل التحكم والتصرف بتلك المياه للإسرائيليين. وجاء في النصوص أنه يمكن للفلسطينيين إعادة تكرير مياه الصرف الصحي من الأموال التي يحصلون عليها!! تلك نكتة، أما المثال الثاني فيجيء في النصوص أن الخطة ستسمح للفلسطينيين ببناء فنادق ومطاعم .. تلك نكتة أخرى.
لا يعني أنها بهذا المستوى من العبث أنها لن تمر، ولا يعني أن رفض العالم وأوروبا لها يعني أنه سيتم فرملتها، فتلك مواقف نظرية مازالت تتبنى قرارات الأمم المتحدة وتطالب إسرائيل بالانسحاب وفقاً لها، ولكن بين مواقف العالم وبين واقع التمدد الإسرائيلي على الأرض هوة كبيرة لا يمكن جسرها بالبيانات والخطابات. وهذه هي معضلة الفلسطينيين، فالمراهنة على المجتمع الدولي صحيحة ولكنها لم تغير كثيراً في السلوك الإسرائيلي ولم تردعه، لكن هذا كان يوهم الفلسطينيين بشيء ما يجعلهم أكثر اتكالاً أو ربما يعتقدون أن هذا ما عليهم فعله.
هذا وَهْم جرى تضخيمه خلال سنوات ماضية، حتى أن هناك قراراً لمجلس الأمن الدولي بوقف الاستيطان، لكن المستوطنات لم تتوقف بل تسارعت حد الجنون، كما وهم الانتصارات في غزة بعد كل معركة تعود فيها غزة المنتصرة للحصار والأزمة، إن الفصائل والقوى تكره الحقيقة لأنها تصدمنا وتكشف عجز الفعل، فالحقيقة أن مشروع إسرائيل تمكن أكثر من السيطرة على الضفة والقدس وعزل غزة وتطويعها وتحويلها الى حالة دفاعية وليست هجومية، وكذلك تغيير ثقافة الناس في الضفة.
أُعلنت الصفقة يوم اثنين وبعدها مباشرة أعلن الأربعاء الذي تلاها أنه سيكون يوم غضب فلسطيني وسيتحرك الناس في الشوارع، ولكن الحضور الشعبي كان أقل بكثير من أن يكون بحجم الكارثة، وبدا الناس كأنهم غير مبالين، ولم يقف أحد أمام أسباب هذا الفتور باعتبار الشعب واحداً من أهم ممكنات المشروع الوطني، وأن حركته هي العامل الوحيد الذي يمكن أن يصنع معادلة ما في موازين القوى، لكن تلك غابت أمام التهديد على المشروع الى الدرجة التي وقفت فصائل تاريخية وضعت نفسها في موقع مسؤولية التحرير فخورةً ببعض العمليات الفردية التي تعبر عن غضب الأفراد، ولكنها لا تعكس برنامجاً حري بالفصائل أن تكون قد اتفقت عليه لمواجهة الإجراءات على الأرض.
لقد تعرض أيمن عودة زعيم القائمة العربية المشتركة للهجوم إثر إدانته لعملية القدس، وسبب ذلك الهجوم اعتقادنا بأن الجميع يجب أن يكون مثلنا تماماً، وكأن ما هو مطلوب في مواجهة أعتى المشاريع أن تقول كلمتك وتمشي، في حين أن الرجل يخوض مواجهة مباشرة في وجه اليمين هي الأشد بين الأقلية الفلسطينية وإسرائيل التي تسعى لطردهم وإخراجهم، وقد جاء ذلك كأحد بنود صفقة ترامب بإخراج المثلث وسكانه من اسرائيل.
يدرك أيمن عودة بأن منفذ العملية الشهيد شادي بنا من حيفا، فأراد أن يتدارك ما يمكن أن يشكل خطورةً على تلك الأقلية في هذا الظرف بالذات، وألا يسلح اليمين بأسلحة هو في غنى عنها، أراد أن يعزل فلسطينيي الـ 48 عن العملية، فليس مطلوباً منهم أن يذهبوا لهذا المستوى فقط. ما هو مطلوب صمودهم وبقاؤهم وهم يعرفون ما عليهم فعله، وليس من حقنا نحن أن نكون أساتذة على من تمكنوا من تقديم تجربة رائدة أبرزها وحدة القائمة، وهو ما فشلنا به بشكل ذريع.
لن يتوقف المشروع الإسرائيلي الذي يفتح شهيته لكل ما كتبه بنفسه ولنفسه في صفقة ترامب، وسيستمر في التبجح كما فعل نتنياهو الخميس الماضي وهو يرسل رسالته للرئيس أبو مازن بأنه سيستمر به أو بدونه، وسيستمر المجتمع الدولي في رفضه للصفقة دون فعل حقيقي على الأرض، ولكن ليس مطلوباً من الفلسطيني إلا أن يفكر بكيفية الصمود على الأرض في هذا الظرف الصعب، وأن تدرك القيادة الفلسطينية أن الواقع أصعب كثيراً من قدرتها على العمل.
ولكن مطلوب من القيادة أن تعرف أن هناك أزمة في حركة الشارع، وهو رأس المال الوحيد، كيف نشأت تلك الأزمة ولماذا؟ هل يتعلق الأمر بتجريف ثقافة التصدي في الضفة التي تحولت إلى حالة استهلاك وسط ارتفاع الأسعار، أم يأساً من القدرة على الفعل، أم أن هناك أزمة ثقة بين القيادة والفصائل وبين الشارع، تلك أسئلة جوهرية تشكل الإجابة عليها نصف الفعل لأنها تتعلق بكل ما يملك الفلسطيني من قوة.
تعزيز الوجود الفلسطيني هو شكل المواجهة القادمة مع دولة أعلنت أنها تريد كل الأرض بلا سكان عودةً لمشروع هرتسل، وأن تخرج المثلث من بطنها. كيف يتم تعزيز هذا الوجود؟ في مناطق الـ 48 اتركوا الأمر لأيمن عودة ورفاقه، ولكن على مستوى الضفة وغزة فإن الأمر يحتاج إلى تغيير في النموذج الذي قُدم للناس محْدثاً هذا الإحباط وأن توضع كل الإمكانيات على بساطتها في خدمة الناس، هؤلاء الذين يشكلون ملح الأرض الذي يجفف الحلق الإسرائيلي، ودون ذلك سيبقى الفعل مجرد شعارات واهمة كما نحن معتادون..!