تعود المقولة لأكثر من عقدين في بيت الصديق الشاعر خالد جمعة الذي كان يجمعنا عندما كان يزور الوطن الكاتب الكبير فيصل حوراني، فقد اعتاد الشاعر دعوتنا في حضور الشاعر المرحوم أحمد دحبور هذا في النصف الثاني من التسعينيات ولم يكن قد مضى على عودة السلطة سوى سنوات قليلة.
في إحدى سهراتنا التي اعتدت الصمت حينها في حضرة كبار كتابنا وأنا أبدأ أولى خطواتي الصحافية مستفيدا من حديثهم أمثال الأستاذ فيصل والأستاذ طلال عوكل والأستاذ هاني حبيب والأستاذ حسن خضر وقد كرمتني لاحقا جريدة «الأيام» بعمود إلى جانبهم بعد أن كنت تلميذهم.
عودة لأحد لقاءاتنا آنذاك، سألت الأستاذ فيصل بعد أن تبدى بأن الاتفاق مع الجانب الإسرائيلي لم يسر كما يجب، سألته إلى أين نحن ذاهبون؟ فأجاب وهو واحد من الذين اعتاد الشهيد الكبير ياسر عرفات استشارتهم باستمرار قال، «لقد وضعنا الإسرائيلي في كمين لن نستطيع معه التقدم للأمام ولا الرجوع للخلف ولا الذهاب يمينا ولا يسارا ولن نستطيع حتى الوقوف بنفس المكان وفقط ستكون كل حركاتنا قفزات في الهواء .. ثم ختم محاولات للحركة ولكن لا شيء».
تذكرت تلك المقولة وأنا مثل كثيرين غيري يتأملون المأزق وخاصة بعد كلمة رئيس الوزراء التي عكست عمقه وما بين خيار بقاء السلطة بهذا الشكل الذي يضعها في وضع مأساوي غير قادرة مع تسديد رواتب موظفيها بعد أن تحملت مسؤولية الشعب تحت الاحتلال بخطوة متسرعة خلت من فهم الخصم وخلت من التفكير الاستراتيجي، وكأن اللحظة العاطفية هي التي حكمت الخيار.
وما بين حلها وهي خطوة لم تعد ممكنة ولم تعد خيارا مهددا للإسرائيلي بعد أن اتضح مشروعه بفصل غزة والسيطرة على الضفة. وما بين خيارين كلاهما مُر يقف المشروع الوطني حائرا أو تائها يقفز في الهواء دون جدوى محاولا الإفلات من اللحظة الكئيبة بعد أن بدت الحركة للأمام مستحيلة بتجربة أكثر من ربع قرن.
فلا ينبغي الحديث عن مأزق بقاء السلطة لأن التجربة التي تتجسد أمامنا تقول كل شيء وقد سبق التعبير عن ذلك في مقالات سابقة ..فقد تحمل الفلسطيني مسؤولية نفسه مبكرا تحت الاحتلال، حكم نفسه وبقيت كل إمكانياته في يد الإسرائيلي وكان لا بد وأن يخضع لمقايضة هي بالقطع في غير صالح مشروعه ووقع أسيرا لمعادلة كان لا بد وأن تقطع عليه الطريق إن أراد الاستمرار، فمن أجل أن يدير شعبا ويعيله لا بد وأن يتم استدراجه نحو مساحات يستجيب فيها لشروط الإسرائيلي وحين رفض الحد الأدنى مثل سرقة رواتب الأسرى وجد نفسه فقيرا يشد أحزمة في غير زمانها ويبدأ الترنح.
أما حل السلطة وهو خيار كما سبق لم يعد يصيب الإسرائيليين بالذعر كما السابق بل أن سلوك إسرائيل كأنه يريد إنهاء السلطة بالضفة وإعادة السيطرة عليها وحكمها بالإدارة المدنية بالإضافة لإنهاء التمثيل الفلسطيني الذي تجسده السلطة هذا إذا تجاهلنا أن الأمر ليس بالسهل فلسطينيا. فقد غادر المناضلون مواقعهم وتحولوا إلى موظفين مترفين فمن المستحيل إعادة عقارب الساعة للوراء، فالفلسطينيون ليسوا هم الفلسطينيين قبل ثلاثة عقود وقد تمت إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بما يتوافق مع وجود السلطة والإقليم ليس هو الإقليم الذي يهوي باتجاه إسرائيل وكل شيء تغير فالزمن لا يعود.
عندما حذر جنرالات سابقون نتنياهو من ضم الضفة الغربية لأن ذلك «سيؤدي لانهيار السلطة وتهديد امني لإسرائيل» رد عليهم بأنه يعرف ماذا يفعل فالضفة «ليست أمنا بل ميراث الأجداد» بمعنى أن ضم الضفة هو ما يفكر به نتنياهو وأن إسرائيل تعمل على أن تنهار السلطة وهي تعرف ماذا تفعل بمعنى أنه لم يعد خيارا مهددا كان ذلك في مرحلة ما أما الآن فقد أفلتت اللحظة التاريخية.
علينا أن نرى الأمور بشكل واضح ومن لا يعتقد أننا في أزمة فهو مخطئ، وربما الأزمة الأخطر من كل النواحي سواء بالهجوم الأميركي والتطرف اليميني في إسرائيل أو بالانقسام أو بالاستيطان أو بالاقتصاد أو بالمجتمع وأحد أبرز تعبيرات الأزمة هو نموذج من بات يجاهر دون خوف بخيار روابط القوى أو متعاوني السبعينيات والفارق أن المناخات أكثر رداءة.
هذه هي الحقيقة، فقد اصطدمت عجلة السياسة بجدار سميك ولا يلوح في الأفق حل لها وما يتبدى مجرد قفزات في الهواء دون جدوى. وكان من الطبيعي أن نصطدم أولا لأننا نواجه خصما منظما والمسألة الثانية أن الفكر الفلسطيني كف عن العمل تاركا لهواة
السياسة أن يجربوا حظهم في أخطر مرحلة من مراحل التاريخ الفلسطيني حيث لا تتسع إلا للمحترفين، وحين تصطدم السياسة عليها أن تعود للفكر السياسي الذي يقودها ويوجهها ويجد الحلول حيث تتعثر وحين يغيب هكذا نضل الطريق في غياب مراكز الدراسات.
هل يعني أن الأمر معلق أمامنا ولا خيار؟ بالقطع لا فالشعوب قادرة على نيل حريتها وإن كانت تجربتنا كحكم تحت الاحتلال لا تشبهها تجربة وأن نوعية الاحتلال لدينا هو احتلال استيطاني وليس احتلالا عاديا ولكن بالإمكان فعل الكثير وذلك يتطلب أولا إعادة الاعتبار للتفكير بما هو أبعد من رواتب وزراء وموظفين وبشكل جماعي وضمان مؤسسة جامعة قادرة على الصمود والمواجهة بشكل موحد، وحينها فإن التفكير الجمعي قادر على اجتراح الحلول أما دون ذلك فسنبقى نقفز في الهواء كما قال مفكرنا الجميل فيصل حوراني ذات يوم.