لا شك أن مسيرة العودة الكبرى تشكل تحولاً جذرياً في ميزان الصراع مع كيان الاحتلال، ونهجاً جديداً في المقاومة السلمية التي ابتعدت عن الشكل المعهود للكفاح المسلح، واستثمرت الأدوات السلمية والتلقائية الشعبوية المتمثلة في إدراك الفلسطينيين لحقهم بالعودة إلى أراضيهم التي هجروا منها عام 1948، وإرادتهم في تكريس هذا الحق.
هذا فضلاً عن استخدام وسائل الاعلام الحديثة التي شكلت نقلة نوعية في المشهد الإعلامي أمام الرأي العام الدولي الذي بات حرجاً أكثر من أي وقت مضى خاصة مع السيل المتدفق من المقاطع المصورة التي تثبت وحشية الاحتلال في التعامل مع المتظاهرين، والفاصل هنا أن الآلة الاعلامية الإسرائيلية وبرغم ضخامتها باتت عاجزة عن تبرير هذه الوحشية، أو تصوير الفلسطيني بالجلاد كما اعتادت فيما مضى.
ورغم أن إسرائيل قد سوقت نفسها أن جيشها قد نجح في مهمته وأفشل الهدف الرئيسي من هذه المسيرات وهو اقتحام الحدود، إلا أنها قد خسرت على الصعيد السياسي كثيراً، فقد نجحت غزة في وضع نفسها بقوة على طاولة مجلس الأمن، فضلاً عن استجلابها الكثير من ردود الأفعال الدولية المنددة بوحشية الاحتلال في التعامل مع المسيرة السلمية، إضافة إلى أنها طرحت نفسها بقوة في قلب أي أجندة سياسة مستقبلية في ظل ما يتم الحديث عنه من مقترحات أمريكية تتجاهل الحقوق الفلسطينية، خاصة حق العودة.
لطالما مثلت غزة نموذج الصمود الفلسطيني وتحدي الاحتلال وعدم الاستسلام أمام كافة المؤامرات التي تستهدفها، وهي اليوم تثبت مجدداً للقيادة الفلسطينية أولاً ومن ثم لدول الإقليم أنها متموضعة على رأس الأجندة الفلسطينية، ولا سبيل إلى أي حل سياسي دون أن تكون غزة في مقدمته.
في المقابل أيضاً مثلت غزة نموذج المعاناة ومكابدة الألم والحصار والقهر، ولعل هذه الظروف هي أحد العوامل الرئيسية التي دفعت الشباب للمشاركة بهذا الحجم في هذه المسيرة.
وأمام هذا الزخم الفلسطيني المنتشر على طول الحدود، فالمطلوب هنا هو تعزيزه من خلال تصدير الرواية الفلسطينية للعالم في مواجهة الإعلام الإسرائيلي، والعمل على أنسنة هذه الرواية بالشكل الصحيح، لا التعامل معها فقط على هيئة أخبار جافة أو إحصاءات وأرقام، فهذا ما يلفت نظر الجمهور الغربي.
وعلى الصعيد الفلسطيني، فالمطلوب أيضاً أن تكون هنالك وقفة موحدة من أهلنا في القدس والضفة والداخل المحتل، وأن يتحدوا مع ما يحدث في غزة من خلال مسيرات سلمية تهدف إلى إبطال مخططات ترامب، وتؤكد هوية القدس العربية من ناحية، ومن ناحية اخرى التشديد على التمسك بحق العودة.
وكذلك يتوجب على الفصائل الفلسطينية، ألا تتعامل مع نجاح مسيرة العودة كانتصار يحسب لحزب أو لآخر، والعمل بشكل أكبر على إبعاد أي صبغة حزبية عن هذا الحدث، فهذا قد يصيبه في مقتل، ونشر الوعي بأن هذه الخطوة ستؤسس لمرحلة جديدة من العمل الوطني الشعبي والسلمي يقدم الشعار الوطني وعلم فلسطين على الشعارات والرايات الحزبية.
حجم المشاركة في مسيرات العودة الكبرى خاصة في قطاع غزة، يثبت بشكل أو بآخر أن الانتفاضة الفلسطينية ماتزال مستعرة وإن اختلفت وتيرة حدتها، فهي قد ظهرت اليوم بشكل قوي فلم يطمسها كم النكسات التي عاشها الفلسطينيون على مدار العقود الماضية والانحرافات التي أصابت عددا من السلوك والمواقف القيادية الفلسطينية.