رغم ما تنطوي عليه مخاطبة العالم، من أهمية، من حيث هي تقدّم فلسطين، باستحقاقها وجدارتها من كل الزوايا والدوافع بالاستقلال الوطني، ورغم أن الخطاب السنوي للرئيس محمود عباس، في الجمعية العامة، عادة ما يعتبر بمثابة "مراجعة سياسية" أو "جردة حساب" لحصاد عام على الصعيد السياسي الخاص بالشأن الفلسطيني، أهم ما فيها هو ما تقدّمه من اقتراحات أو مشاريع قرارات، تعتبر بمثابة خطة عمل العام القادم، إلا أنه أولاً وقبل كل شيء، لا بد من القول: إن خطاب فلسطين في الأمم المتحدة، إنما هو بالدرجة الأولى خطاب بروتوكولي، موجه للرأي العام العالمي، وليس للرأي العام المحلي، وأنه يبقى ما بعد تلك المناسبة، أي ما يتلوها من خطوات، إن كان على صعيد التقدم بمشاريع قرارات أو من إجراءات على الأرض في فلسطين هو الأهم.
لا بد من الإشارة بالمناسبة، إلى أن الاهتمام الفلسطيني، بشقيه: الرسمي والشعبي، بات وخلال السنوات الأخيرة يتزايد بالكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي داخل مؤسسات الأمم المتحدة، وأن مخاطبة فلسطين للمنظمة الدولية تزايدت أهميتها، وهذا يعود _برأينا_ لسببين: أولهما مبعثه الإخفاق الأميركي في رعاية ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي بكل بنوده، لذا فإن لجوء فلسطين للمنظمة الدولية، وإن كان باللاوعي يعبّر عن محاولة التعويض بالمنظمة الدولية، التي تبقى على أي حال أكثر توازناً وأقل انحيازاً من الولايات المتحدة لإسرائيل، والثاني هو تراجع التأثير العربي والإسلامي، وانعدام دوره بإسناد الشعب الفلسطيني في كفاحه، بحيث باتت فلسطين تشعر بأنها تقاتل وحدها، منذ عقود، وهكذا صارت شيئاً فشيئاً، المنظمة الدولية ومؤسساتها وحدة من جبهات الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، خاصة بعد تبني القيادة الفلسطينية لبرنامج الكفاح السلمي الرسمي والشعبي، ضد الاحتلال.
في الحقيقة، ورغم ما أظهره الشعب الفلسطيني من التفاف حول شخص الرئيس محمود عباس، وقد تجلى ذلك من خلال المتابعة الشعبية، في كل مناطق تواجد الشعب الفلسطيني لخطابه في الأمم المتحدة، ويعود ذلك إلى أن شخص الرئيس هو عملياً أهم عنوان موحد للشعب الفلسطيني حالياً، إلا أنه لم ينتابه الوهم من أن "خطاباً" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يمكن أن يضع حداً، مهما كان منمقاً أو فصيحاً، أو حتى منطقياً ومتسقاً مع المنطق الدولي، لاحتلال جاثم على أرض دولة فلسطين منذ خمسين عاماً، فقد بات الشعب الفلسطيني أكثر قناعة، بأن تحقيق الأمنيات والأهداف يحتاج طول صبر وأناة ووقت، خاصة بعد أن تطلّب إنهاء الانقسام الداخلي عشر سنوات، وهو أمر داخلي، أياً كانت صعوبة تحقيقه يبقى أقل وطأة وتعقيداً من إنهاء الاحتلال نفسه.
ورغم أن الكفاح الدبلوماسي الفلسطيني حقق "إنجازات" ربما لا يرى البعض أبعادها الآن، إلا أنها تنطوي على أهمية بالغة؛ لأن المستقبل سيكون أكثر عدلاً، وستظهر أهمية تلك القرارات لاحقاً، تماماً كما هو الحال في قرارات المحاكم، نقول رغم تلك الإنجازات، إلا أنه وعلى الصعيد العملي، ما زال الكفاح في الجبهة الكونية، لا يحقق ميدانياً شيئاً يذكر، ربما لأن هناك "انقطاعاً" بين المناضل الدبلوماسي والمناضل الميداني، حيث لا بد من تشكيل جبهة ميدانية لترجمة ما يتم تحقيقه دبلوماسياً على الأرض، وربما لأنه حتى اللحظة، لم يتم اللجوء، إلى المنجز الدبلوماسي للاستناد إليه في تحقيق منجز ميداني، مثل تقديم لوائح اتهام _مثلاً_ بحق قادة إسرائيل، مرتكبي جرائم الحرب، وجرائم حقوق الإنسان بحق الفلسطينيين.
وبالسياق، وحيث إن العام 2017، الذي ينطوي على أهمية مزدوجة؛ من حيث هو يعني مرور 50 عاماً على احتلال أرض دولة فلسطين (القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة)، ومرور مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، إلا أن شيئاً من تحقيق الشعار الذي رفعته القيادة الفلسطينية، العام الماضي، من أن هذا العام سيكون عام إنهاء الاحتلال لم يتحقق.
ربما كان من أهم ما ورد في خطاب الرئيس عباس بالجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، هو قوله: إنه لا بد من جعل الاحتلال أكثر كلفة على إسرائيل، ولا بد من تغيير واقع حال كون السلطة بلا سلطة، وهذا لا يكون إلا بإطلاق مقاومة للاحتلال وللمستوطنين، مقاومة شعبية متعددة الأشكال والمستويات، الشعبي منها يكون سلمياً، والنخبوي منها يكون عنيفاً، وحين يبدأ الاشتباك الميداني، مع استمرار الكفاح السياسي والدبلوماسي، حينها يبدأ الضغط على الاحتلال، ويبدأ بنيامين نتنياهو يستجدي لقاء محمود عباس، ويبدأ التكتل اليميني المتطرف الحاكم في إسرائيل بالتفكك، وتتراجع لغة الخطاب الرسمي الإسرائيلي التي بدأت تقول بوضوح بنفي الفلسطيني وإنكار حقه في الوجود والاستقلال، وباتت تقول علناً: إن القدس والضفة الغربية هي أراض إسرائيلية، وتراجعت حتى عن القول: إنها "مناطق مدارة" كما اعتادت القول منذ العام 67، فضلاً بالطبع عن قولها: إنها مناطق محتلة.
أما الحديث عن الصفقة التاريخية، أو الحل الإقليمي أو مؤتمر عربي/إسرائيلي، ترعاه الولايات المتحدة، وفي محاولة لإغراء إسرائيل من خلال ضم السعودية إلى مثلث: الأردن، مصر وفلسطين، ما هو إلا حديث عابر، حتى لو عقد فلن يتم التوصل لا لاتفاق ولا لحل؛ لأن فلسطين ما زالت قادرة على درء الاستسلام، ومنع الهزيمة الماحقة التي بات العرب أكثر قبولاً بها، لكن لا بد من البناء على انتصار الأسرى والمرابطين في القدس، في نيسان وتموز الماضيين، والبناء على إنهاء الانقسام، والقبض على دعوة "حماس" بشد الرحال للأقصى لمواجهة هجوم المستوطنين على الحرم القدسي بمناسبة عيد رأس السنة اليهودية، فمعركة القدس توحدنا، ومدخلنا إلى قلب الطاولة في وجه إسرائيل والنظام العربي، والضعف والخذلان، وهي الخطاب الأهم، الذي يجبر إسرائيل على الهرب من أرض تشتعل ناراً تحت أقدامها.