تاريخياً، تتميز مصر عن غيرها من الدول بقدرتها على التأثير الناعم على الآخرين، فهي دولة مبدعة في تسخير كل أشكال القوة الناعمة في تعزيز علاقاتها الخارجية مع الشعوب قبل الأنظمة، وفلسطين عموماً وقطاع غزة على وجه الخصوص يحاكي تلك العلاقات الممتدة التي عبدت بكل أشكال القوة ابتداءً من القوة الخشنة ممثلة بالجيش المصري ودمائه الزكية التي روت تراب غزة، فقد امتزج على أرض غزة الدم الفلسطيني بالدم المصري، ولعل من المجازر التي عكست هذا المشهد مجزرة حدثت بجوار محطة مياه غزة، بعد أن دخلت قوة صهيونية إليها في 14/8/1954م، وقتلت المشرف على المحطة وزرعت الألغام في المنطقة وانسحبت، ثم عاد جيش الاحتلال مرة ثانية في مساء 28/2/1955م بثلاث مجموعات توزعت مهامها بين نسف محطة المياه، ومهاجمة المواقع المصرية بالرشاشات ومدافع (هاون) والقنابل اليدوية، ونشر الألغام على الطرقات لمنع وصول الإمداد، وكان للجيش المصري النصيب الأكبر من الشهداء والجرحى؛ نتيجة المباغتة والهجوم على مواقعه، وارتقى العديد من الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين؛ ووصلت حصيلة المجزرة “39” شهيدًا و”33″جريحًا.
وصولاً للقوة الناعمة ممثلة بالدراما المصرية، والرياضة لا سيما كرة القدم التي كان الغزيون ينتظرون مباراة الأهلي والزمالك كالمصريين بالضبط، وليس انتهاءً عند المنح الدراسية والعلاجية للفلسطينيين في الجامعات والمعاهد والمستشفيات المصرية، حتى كاد ألم الغربة يغيب عند إقامة الفلسطيني في مصر، وذلك بسبب العلاقة المميزة للشعب المصري والدولة المصرية مع الأجنبي كان فلسطينياً أو عربياً أو من أي جنسية على هذه المعمورة.
لم تغب غزة عن ذاكرة المصريين وربما هذه القصة التاريخية تعبر عن ملامح العلاقات الممتدة بين الشعبين، فمن منا لا يذكر قصة السكين التي كانت أحد أسباب رد كرامة المواطن المصري، وساهمت في جلاء الفرنسيين من مصر، نعم هي من غزة، والتخطيط والدعم والمساندة كانت من غزة.
سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر يؤرخ المؤرخون بأنه انطلق من غزة، بعد أن قدم من إحدى القرى بشمال بر الشام، قادمًا إلى القدس لمقابلة الوالي المهزوم أمام القوات الفرنسية الغازية للشرق، وعرض عليه سليمان الحلبي قتل قائد الحملة في مصر، مقابل أن يعفو الوالي عن والده الشيخ ونس الحلبي تاجر السمن، ويرفع عنه الديون المستحقة.
بالفعل أرسل والي القدس أحمد آغا الشاب سليمان الحلبي إلى ياسين آغا في غزة؛ ليعطيه مصروف المهمة والخطط اللازمة للانطلاق بمهمته، وكان اللقاء في المسجد الكبير بمدينة خان يونس، فاشترى الحلبي من غزة ”سكينًا” قتل بها الجنرال كليبر، ليحاكم ومعه أربعة شبان من قطاع غزة، وهم: محمد وعبد الله وسعيد عبدالقادر الغزي، وأحمد الوالي؛ بسبب تسترهم على سليمان الحلبي، وعدم إبلاغ الفرنسيين عن مخططه.
ما سبق يؤصل لشكل العلاقات المصرية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص علاقة غزة بمصر، فغزة هي البوابة الشمالية الشرقية للأمن القومي المصري، والترابط الثقافي والديني والحضاري والتاريخي والجغرافي يجعل لزامًا على الطرفين المصري والفلسطيني تطوير العلاقات بينهما، وأن تبقى مصر العمق الاستراتيجي للقضية الفلسطينية، وأن تستثمر قطاع غزة الذي تشكل مقاومته اللواء العسكري المتقدم للدفاع عن الأمن القومي المصري، بعد أن كبل الصهاينة باتفاقية (كامب ديفيد) يد الجيش المصري في سيناء، تلك المنطقة التي تتمتع بخصوصية لدى المصريين يجب أن ندركها نحن الفلسطينيين، فمعظم الغزوات التي استهدفت مصر انطلقت من الشرق(من شبه جزيرة سيناء)،ويشير جمال حمدان في كتابه “شخصية مصر” إلى ظاهرةٍ مهمة في جغرافية وتاريخ مصر منذ القدم حتى الآن، وهي أن الدلتا في الحقيقة مفتوحة ومكشوفة من الشرق، ولذلك إن (السيناريو) المفضل لمعظم غزاة مصر عبر العصور هو اختراق سريع لسيناء يؤدي إلى الوصول إلى الدلتا، وتهديد حقيقي للأمن المصري في عقر الدار، ولذلك يصف حمدان طريق سيناء _لاسيما طريق الشمال (طريق الفرما)_بأنها طريق الغزاة؛ لكثرة ما عبرها من جيوش.
وفي هذا السياق إن التعاون الأمني والتوافق السياسي والترابط الاقتصادي بين الأشقاء المصريين والفلسطينيين في غزة من شأنها أن تساهم في تطوير منطقة سيناء، وتملأ الفراغ الذي قد تملؤه جماعات إرهابية، أو أصابع صهيونية لا تريد لمصر الأمن والاستقرار، وهنا يجب أن يتجاوز الطرفان كل المشاكل التي نتجت بعد عزل الرئيس محمد مرسي، وأن يكون التعامل بين الدولة المصرية والحكومة في غزة من منطلق المصالح التي تخدم الشعبين المصري والفلسطيني، وتحفظ أمن واستقرار المنطقة.
إن قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي بفتح معبر رفح في شهر رمضان، وأن هذا القرار قد يمتد لما بعد عيد الفطر السعيد، ما هو إلا ترجمة لرؤية حكيمة تعمل من خلالها مصر على استعادة الدور والمكانة في الملف الفلسطيني بكل مكوناته، وقد تذهب مصر في علاقاتها مع قطاع غزة لما هو أبعد من ذلك بكثير بما يضمن التخفيف عن كاهل الشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع، وفي ضوء ما سبق فإن رسالتي للدولة المصرية ممثلة برئيس الجمهورية تتمثل فيما يلي:
محاربة الإرهاب في سيناء تبدأ من بوابة التنمية، والانفتاح على قطاع غزة مدخل مهم لتنمية سيناء وغزة معاً. ومنطقة صناعية مشتركة على حدود غزة تشكل منطلقاً للتنمية في سيناء وغزة.
القوة الناعمة المصرية تتطلب حضوراً مصرياً في قطاع غزة على سبيل المثال رفح بحاجة لمستشفى مصري.
ملف الممنوعين من دخول مصر من أبناء قطاع غزة، بحاجة لمراجعة شاملة له حتى لا يقع الظلم على أحد وبما يضمن المصالح الأمنية المصرية.
احتضان مصر للمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها يشكل مدخلاً مهمًا لمواجهة النفوذ الصهيوني في القرن الافريقي، وتداعيات ذلك على الأمن القومي المصري.
في الختام، مصر دولة محورية ومركز في المنطقة، وتشكل القضية الفلسطينية أهم أوليات السياسة الخارجية المصرية، وعليه فإن تقييم العلاقات المصرية الفلسطينية بحاجة إلى ديمومة واستمرارية بما يضمن تحقيق المصالح المشتركة للطرفين وعلى قاعدة التخفيف عن كاهل المواطن الفلسطيني.