الآن، بعد حل اللجنة الإدارية، والتصريحات والأجواء الإيجابية من طرفي الانقسام، خصوصًا من قيادات "حماس" بشكل عام، ويحيى السنوار بشكل خاص، وبعد استلام الحكومة للوزارات في قطاع غزة، والأنباء عن صدور قرار في أي لحظة بإلغاء الإجراءات العقابية، ومع عودة الرعاية المصرية النشطة لملف المصالحة، وسط دعم عربي وإقليمي ودولي غير مسبوق، نستطيع القول إن فرصة النجاح في إنجاز المصالحة أكبر من سابقاتها، مع عدم التقليل من العقبات والعراقيل التي تقف أمامها، والتي يمكن أن تنفجر في أي لحظة إذا لم تتوفر القناعة والإرادة والمصلحة لدى الفلسطينيين في استكمالها باتجاه تحقيق وحدة وطنية حقيقية بغض النظر عن كل المعيقات.
إن هناك جملة من الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا التطور، ويمكن أن تؤدي إلى تواصله، تبدأ بوصول المأزق الفلسطيني العام ولدى طرفي الانقسام إلى حد ينذر بالانهيار والانفجار، سواء للسلطة في الضفة الغربية التي تترنح تحت تعنت الاحتلال وضرباته وإمعانه في تحويلها إلى سلطة بلا سلطة، ومضيّه بصورة غير مسبوقة في تنفيذ خطة إقامة "إسرائيل الكبرى"، أو في قطاع غزة الواقع تحت الحصار وتفاقم أزمته المعيشية إلى حد أن الانفجار بات قاب قوسين أو أدنى.
والسبب الثاني الذي يدفع نحو إنجاز المصالحة أن قيادة "حماس" الجديدة، وخصوصًا السنوار، أدركت أن الظروف تغيرت بشكل جوهري، ما يقتضي تغيّر "حماس" إذا أرادت أن تبقى لاعبًا مهما. فقد راهنت الحركة على الربيع العربي الذي تحوّل إلى "ربيع إسلامي"، إذ صعدت جماعة الإخوان المسلمين واعتلت سدة الحكم كليًا أو جزئيًا في عدد من البلدان العربية، أهمها مصر، واقتربت من الحكم في دول عربية أخرى، وسط تشجيع من إدارة باراك أوباما التي راهنت على "الإسلام المعتدل" لـ"إصلاح" البلدان العربية في مواجهة الإرهاب و"الإسلام المتطرّف"، وتحوّل الربيع إلى خريف، وتساقطت أوراقه بسقوط حكم الإخوان في مصر.
ومع مجيء إدارة دونالد ترامب التي تعتمد مقاربة أخرى تقوم على محاربة الإسلام السياسي، بما فيه الإخوان المسلمين، ودعم الأنظمة التقليدية؛ وجدت "حماس" نفسها في وضع صعب، وتحاول أن تعيد تحالفها مع إيران وسوريا وحزب الله، مع إدراكها المتزايد أن عودة المياه إلى مجاريها مع هذا المحور لا يرفع الحصار، ولن يمنع الانهيار والانفجار، خصوصًا بعد إجراءات الرئيس محمود عباس العقابية، فأقدمت على خطوة دراماتيكية بدأت بإقرار وثيقتها السياسية، وإقامة مسافة بينها وبين الإخوان المسلمين، والتوجه إلى مصر بمقاربة جديدة أحدثت اختراقًا في علاقاتها مع نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، من خلال استجابتها للمطالب الأمنية المصرية التي ترددت أو راوغت في الماضي بالاستجابة لبعضها.
وهذا التطور في العلاقة مع مصر رافقه عقد تفاهمات مع تيار محمد دحلان، العدو اللدود لها، والانفتاح من خلاله على الإمارات، التي تشكل رأس حربة الهجوم على الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه "حماس".
ربما اعتقدت "حماس" أن انفتاحها على دحلان يغنيها عن دفع استحقاقات المصالحة مع السلطة، كما يظهر في التفاهمات التي عقدتها معه، وتضمنت تفعيل المجلس التشريعي من دون نواب "فتح"، وتوسيع اللجنة الإدارية، وعقد مؤتمر وطني يمهد عمليًا لنزع الشرعية عن زعامة عباس، لتدرك بسرعة بأن مصر بوابة لعودة غزة للسلطة وليست بديلًا عنها كما أوحت الخلافات المصرية مع الرئيس عباس.
لعل ما سبق يفسر التحولات المتسارعة لدى "حماس" التي أغضبت حليفتيها قطر وتركيا، وبعض قياداتها وأعضائها وجمهورها الذين لم يواكبوا استدارتها وتحوّلاتها المتسارعة. فقد أدركت "حماس" استجابة لغريزة البقاء أن الوثيقة السياسية الجديدة لم تكف، وأن عليها إما التنازل عن السلطة في غزة كليًا أو جزئيًا إذا أرادت أن تبقى لاعبًا مهمًا، وحتى تقبل إقليميًا ودوليًا وإسرائيليًا، أو أن تقبل شروط الرباعية الدولية التي وحدها ستفتح لها أبواب البقاء في السلطة، وأبواب واشنطن وتل أبيب والعديد من العواصم الأوروبية والعربية.
يبدو أن "حماس" (أو اتجاه قوي فيها) اختارت أن تغادر السلطة، أو على الأقل أن تخفف تواجدها فيها، وما يعنيه ذلك من إلقاء مسؤولية القطاع على السلطة، في محاولة لحماية وجودها ودورها وسلاح المقاومة، ولم تصل إلى حد قبول شروط الرباعية، مع أن عليها الإدراك أنها لا يمكن أن تجمع ما بين تمسكها بسلاح المقاومة والعمل من أجل إحياء القضية الفلسطينية ومعارضة المخططات الرامية إلى تصفيتها في ظل إعادة السيطرة لسلطة ملتزمة بالتزامات تجعل من الصعب جدًا تحقيق هذا المعادلة، مما يجعل ابتعاد "حماس" عن السلطة مع احتفاظها بسلاح المقاومة مجرد مرحلة أولى ستتلوها مراحل أخرى ستضع سلاح المقاومة على طاولة البحث. طبعًا، "حماس" تراهن على كسب الوقت وحصول متغيرات تمكنها من الإفلات.
ثالث سبب لحدوث التطورات في ملف المصالحة، أن المنطقة دخلت في مرحلة جديدة، ووصلت بعض الحروب والأزمات إلى فصلها الختامي، خصوصًا في سوريا، واحتمال اندلاع حروب جديدة على خلفية الخشية العراقية الإيرانية التركية من إقامة دولة كردية، واحتمال توسعها لتضم الأكراد المنتشرين في دول المنطقة، وتصاعد الخلاف بين المحور الإيراني والمحور السعودي، وبين إيران وإسرائيل، الأمر الذي ينذر بالحرب على خلفية تخوف إسرائيل من ازدياد النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، ووصوله إلى حدودها بعد انتصار نظام بشار الأسد .هذا العامل يستدعي تبرير الوضع الفلسطيني والسعي لجذب "حماس" بعيدًا عن المحور الإيراني.
هل يعني ما سبق أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد رفعتا الفيتو عن المصالحة؟
عندما قرأت تصريح الصديق موسى أبو مرزوق حول رفع الفيتو الأميركي الإسرائيلي عن المصالحة خفت، لأنه إذا كان الأمر صحيحًا فهذا يعني أن "حماس" دخلت إلى بيت الطاعة، لا سيما أن إسرائيل لم ولن تغيّر استراتيجية ساعدتها على تحقيق مكاسب كبرى، وهي استراتيجية فصل الضفة عن غزة، وتشجيع الانقسام الفلسطيني، والعمل على مدّه بالوقود اللازم لاستمراره وتعميقه. ولكن بعدما تمعنت في الأمر وجدته محاولة من أبو مرزوق لإظهار أن واشنطن وتل أبيب هما اللتان تغيرتا وليس "حماس"، وهذا غير صحيح على الإطلاق.
فإسرائيل ليست مهزومة لكي ترفع الفيتو عن المصالحة، وإذا رفعته يعني أنها باتت تأمل من المصالحة أكثر مما تأمل من استمرار الانقسام. فهي حاولت أن ترمي قطاع غزة في حضن مصر ولم تنجح تمامًا، وتخشى من انفجار القطاع لأنها ستتحمل المسؤولية كونها الدولة المحتلة المحاصِرة له.
كما أن إسرائيل تعمل على تمكين السلطة من السيطرة على قطاع غزة لعزل "حماس" من دون أوهام عن إمكانية كبيرة للنجاح في ذلك، فهي تتوقع أن يقوم الفلسطينيون بإفشال هذه المحاولة كما أفشلوا المحاولات السابقة، وربما يقتتلوا مجددًا. وإذا تحققت المصالحة بالشروط الأميركية الإسرائيلية فستكون "حماس" بعدها في وضع أصعب، وتحت ضغط أكبر لدفعها لقبول صريح بشروط الرباعية والتخلي عن سلاح المقاومة.
وتأمل إسرائيل أيضًا أن تنقل مركز السلطة من الضفة إلى القطاع تحقيقًا لهدف قديم يقوم على حل القضية الفلسطينية في غزة، الذي يمكن أن يتطور إلى إلحاق المعازل الأهلة بالسكان في الضفة بسلطة غزة، وبما يمكّن إسرائيل لاحقًا من ضم معظم الضفة مع أقل عدد ممكن من أصحابها الأصليين.
تأسيسًا على ما سبق، فإن الإجابة عن سؤال: هل رفع الفيتو الأميركي الإسرائيلي عن المصالحة؟ يمكن أن يكون من خلال قراءة بيان اللجنة الرباعية الذي تضمن أقصى ما وافقت عليه إدارة ترامب، إذ رحب بالجهود، وخاصة المصرية، لأنها ستمكن السلطة الشرعية من السيطرة على قطاع غزة، وحل المشاكل المعيشية التي يعانيها. وما لم يقله بيان الرباعية قاله المبعوث الأميركي جيسون غرينبلات الذي طالب بعزل "حماس" وعودة السلطة إلى القطاع، وربط ذلك بالجهود والمشاريع الرامية إلى تحسين شروط الحياة الاقتصادية والمعيشية في الضفة ضمن السلام الاقتصادي الممكن حاليًا، تمهيدًا لصفقة القرن الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية.
ما سبق يوضح أننا أولًا لا نزال في مرحلة تجريبية لم يرفع فيها الفيتو الأميركي الإسرائيلي، ولكن تم إعطاء إشارة بأنه يمكن أن يرفع إذا وافقت "حماس" مباشرة (أو عبر تشكيل حزب سياسي يقوم بالمهمة بدلًا منها) على شروط الرباعية الدولية، وإذا لم توافق عليها أن تؤكد التزامها بالهدنة طويلة الأمد وتغادر السلطة، على الأقل جهازها التنفيذي (الحكومة)، ولا تعرقل جهود إحياء المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى حل تاريخي للقضية الفلسطينية.
وثانيا أن المصالحة التي تحدث حاليًا ليست تلك التي يريدها ويحتاج إليها الشعب الفلسطيني مع أنها تلبي بعض الاحتياجات الفلسطينية، لا سيما تخفيف الحصار عن قطاع غزة وتوحيد مؤسسات السلطة، مما يفرض على كل الوطنيين والحريصين والغيورين على القضية الوطنية ومصالح الشعب الفلسطيني للضغط لكي تكون المصالحة مقدمة لتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم الجميع. وحدة قادرة على تغيير شكل السلطة ووظائفها لتمثل الجميع وتحفظ حقوق الإنسان وحرياته، وتوفر الظروف للتقدم على طريق تحقيق حقوق وأهداف الشعب الفلسطيني بالعودة والحريّة والاستقلال والمساواة.
وأخيرًا، ليس صحيحًا أننا لا نملك من أمرنا شيئًا وأن الانقسام والوحدة قراران خارجيان لا نملك سوى الانصياع لهما، بل يمكن التمرد على ما يُحضّر للقضية من مخططات لتصفيتها، عن طريق توفر قناعة وإرادة بأن الوحدة يجب أن تكون في سياق إحياء القضية بوصفها قضية تحرر وطني، وإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة سياسية حقيقية بلا غالب أو مغلوب. أما عزل "حماس" أو "فتح" أو غيرهما من القوى الفلسطينية فلا يخدم الوحدة، وإنما يساهم في إبعادها عن التحقق.