عقارب الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحاً، المكتب في حالة استنفار استعدادًا للذهاب إلى فندق "الموفنبيك" غرب مدينة غزة، حيث يقيم وزراء الحكومة بعد دخولهم إلى غزة برفقة العشرات من المستشارين والمرافقين.
ومع ثبات عقارب الساعة عند الثامنة تمامًا، بدأ الزملاء بالنزول على الدرج الداخلي لمبنى المكتب وهم يتهكمون على منع تشغيل المصعد قبل الساعة التاسعة والنصف صباحًا بسبب أزمة الكهرباء الحادة.
صعدنا السيارة وانطلقنا إلى الفندق للقاء الوزراء، أحد الزملاء أشعل سيجارته في السيارة وهو يتساءل: هل تعتقدون أن تتم المصالحة لاسيما وأن ملف المقاومة يعد من أكبر العقبات التي ستواجههم في حوارات القاهرة ؟، يرد آخر: خليك متفائل بلاش تتشائم من أولها.
بعد وصولنا إلى الفندق الذي يعد من أرقى وأفخم الفنادق في غزة، استقبلتنا أعمدة طويلة يرفع عليها أعلام دولٍ عربية تحاصَر بعضها بسبب السياسة.
اقتربنا من البوابات.. وأظهرنا بطاقاتنا الصحافية فسمح لنا بالعبور، وما أن تخطو قدميك الفندق حتى تجد صورًا لعمالقة الفن العربي كـ "أم كلثوم، وعبدالحليم، وفريد، وفيروز، وزياد الرحباني، وعبدالمطلب"، لكنك تلقائيًا تتجاهل الموقف وتمضي لإتمام عملك.
في الفندق الذي لم يتم حتى الآن الاتفاق على اسمه ولكنني أفضل "الموفنبيك"، تنظر يمينًا ويسارًا وتشاهد ثلاثة أنواع من عناصر الأمن، اثنين منهم بالزي الرسمي "البدلة" أحدهم يضع شعار "حرس الرئاسة" والآخر يضع "علم فلسطين" الأمر بديهي للغاية.. من يضع شعار "الرئاسة" يتبع للضفة الغربية ومن يضع علم فلسطين يتبع "للأمن والحماية" في غزة.
والنوع الثالث من الضفة ويرتدي "الزي العسكري" الخاص بالحراسات المشددة ويجعلك تشعر للحظات وكأنك "كومبارس" في أحد أفلام "هوليوود".
تجلس على أريكة بنية اللون وأمامك طاولة ترتفع نصف متر عن الأرض موضوعُ عليها فناجين قهوة فارغة وعلبٍ خاصة بالسجائر مختلفة الأنواع، ولكن أكثرها "الرويال" وهو النوع المتداول بكثرة في غزة، حينها تشعر وكأن أكثر المتواجدين من القطاع.
يعود أحد زملائك ويقطع تأملك في مكان إقامة "طابخي" المصالحة.. بالقول: " هل سنستطيع إجراء مقابلة مع رئيس الوزراء رامي الحمد الله"، ومع ابتسامة خفيفة يضيف "والله لتفجر الدنيا بنطلع في السماء" !، يرد المتشائم بالمثل المشهور: "اقرأ المكتوب من عنوانه" في إشارة إلى عناصر الأمن المنتشرة في الفندق.
على الأريكة المجاورة.. يجلس أحد رجال الأمن من أصحاب البدلات الرسمية التي يضع على طرفها "علم فلسطين" وفي يده اليمنى فنجانًا من القهوة.. تسأله بابتسامة خفيفة: "رجال حرس الرئيس يعتقدون بأنهم استلموا قطاع غزة من جديد؟.. يرد بضحكة واسعة وهو يقول: أنت ملاحظ يعني".
بدأنا العمل وتعاملنا مع عناصر الأمن القادمة من الضفة والتي تم استدعاؤها من غزة وأجرينا مقابلات عدة مع بعض الوزراء والمسؤولين وهي مقابلات خاصة فرحنا بها وشعرنا بالإنجاز.
وبعد إجراء المقابلات.. دعوني أروي لكم قصتين قصيرتين فقط عن رجال الأمن أصحاب "البدلات الرسمية والعسكرية".
والشمس تأذن بالرحيل كان أحد الزملاء الأعزاء يقف حاملًا كاميرته مستعدًا لتصوير أحد الوزراء، ولكننا تفاجئنا بمنعنا من أحد عناصر الأمن بدعوى أن الوزير "مرهق" ولا يستطيع إجراء المقابلة، وبعد إلحاح من قبلنا على إجراء المقابلة، صرخ "الرجل الأمني" بالصوت: "عدي رميتك برات الفندق".. طلبنا منه الهدوء وغادرنا بسلام.
وفي المرة الثانية، لم نتوقع أن تكون التعامل الخشن من حرس رئيس الوزراء، خرج رئيس الوزراء رامي الحمدالله من قاعة الطعام وطلبنا منه إجراء مقابلة خاصة، ولكن مضى دون أن يلتفت إلينا، أصرينا عليه وحاولنا مرة أخرى ونحن ننادي: يا دكتور رامي لو سمحت مقابلة دقيقة فقط.. كررنا مناداتنا يا دكتور دقيقة لو سمحت"، توقف الدكتور.. وسمح لنا بالاقتراب وعندما سألناه عن "سبب تأخر رفع الإجراءات العقابية عن قطاع غزة !؟، أنزل المايك وقال: سأخبرك غدًا ومضى قدمًا.
بعدها بلحظات قليلة اعتدى أحد عناصره الأمنيين على الزميل المصور بضربه على معدته مما أدى إلى اختناقه وعدم قدرته على مواصلة العمل، ولحسن حظه كانت الكاميرات تعمل لحظة الاعتداء وصورت كل شيء.
رحلت الشمس وحل المساء.. خرجنا إلى قاعة كبيرة تُطل على البحر المحاصر.. الأجواء هناك كانت أشبه باحتفال لرأس السنة أو حفلًا غنائيًا.. المرافقون والشخصيات يملؤون المكان، يتسامرون مبتسمين على أغنية "أنت عمري" لكوكب الشرق دون وجود أي وزير ونحن مرهقون جدًا وننتظر الحصول على أخر مقابلة للعودة إلى المكتب.
في القاعة المُطلة.. كانت الطاولات ممتلئة بالصحافيين والمرافقين والمستشارين... المرافقون هم أكثر فئة كانت مستفيدة من زيارة الحكومة وتعمل في مبدأ: أكل ومرعى وقلة صنعة، هذه الفئة تحمل بطاقة أشبه بالبطاقة البنكية أو رخصة القيادة وكلما طلبت شيئًا من المطعم قدمت للجرسون البطاقة.
أما المستشارين فكانوا يمارسون دور نواب الوزراء، حيث تجد المستشار محاط بعشرات "السحيجة" على طاولة واحدة يتسامرون بكل هدوء كـ "شاب" في أول لقاء منفرد مع خطيبته.
شعرنا فجأة بالاختناق والغثيان من رجال الأمن والمرافقين والمستشارين والصحافيين الذين لا يعملون لأي وسيلة مما دفعنا للخروج من الفندق دون الحصول على المقابلة.
بعد خروجنا ونحن نتمايل من التعب، صادفنا رجال أمن "عسكريين" في وقت راحتهم.. سألناهم كيف غزة وأهلها !؟، أجاب أحدهم: نشعر كأننا في مدينة رام الله الأسعار سياحية مرتفعة جدًا، عاودنا سؤالهم: كيف كان حي الشجاعية وغزة الشرقية، فقال "الله يعين المواطنين هناك".. قاطع الحديث زميلي وهو يلوح في يده اليسرى ويقول: غزة أصبحت طبقتين أغنياء وفقراء.
وصلنا إلى الزملاء في وحدة البث.. كانوا أيضًا مرهقين وجالسين على الأرض وهم يتأملون "الجيبات المصفحة" الخاصة بالوفود.. يقول أحدهم للآخر هل سأحصل مع المصالحة على أحدهم يومًا ما؟.. رد المتشائم من جديد: "بعد كل اللي صار معنا في الفندق خلال اليوم وأحنا صحافيين لسا بتقول مصالحة"!.
ووصلت السيارة التي ستعيدنا إلى المكتب، صعدنا بها بعد أن حزمنا أمتعتنا وتفقدنا كل شيء تحسباً من نسيانها في الفندق والساعة تشير إلى منتصف الليل.