لا يخفى على المواطنين المحاصرين في قطاع غزة منذ ما يزيد عن 11 سنة عجاف، بأن علاقة حركتي "فتح" و"حماس" تدخل أو مرشحة للدخول حاليًا في معادلة جديدة، فتطور العلاقات بين الحركتين له أسباب عدة، وسبب التطور الرئيسي هو تغير موقف الجمهورية المصرية الذي استعاد بقوة الملف الفلسطيني بعدما وجد تجاوبًا من حركة "حماس" برئاسة يحيى السنوار.
وبالتأكيد إن لكل طرف من طرفي الانقسام دوافعه وأسبابه من أجل تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، ولكن دون تغيير أحد منهما من طبيعته وأهدافه الأساسية، فـ"الأهداف والطبيعة" هما سبب الانقسام والمشاكل طوال السنوات العجاف الماضية، وهذا الأمر الذي من المفترض أن يفهم ويتم التعامل معه الآن.
ولكن ليست "الطبيعة والأهداف" هما ما يحركان السياسة في الشرق الأوسط، إنما القوى والمعادلات بالإضافة إلى الظروف المحيطة بالطرفين، فـ"القوى والظروف" هما من يفرضان مراحل السياسة وإلى أين سيصل الطرف "المعني" في مداه بطبيعته ومصالحه وأهدافه.
والتفاهمات المفاجئة التي جرت بين جهاز المخابرات المصرية و"حماس" دفعت الرئيس محمود عباس للعودة إلى مصر مرة أخرى لاسيما بعد خسارة الرهان على الرئيس الأميركي الجديد "دونالد ترامب" وفرض إجراءات عقابية على قطاع غزة كان الهدف منها تفجير القطاع.
وعودة الرئيس محمود عباس إلى الجمهورية المصرية فتح الباب على مصرعيه أمام مصر لتتحرك بقوة جديدة باتجاه ملف المصالحة وإنهاء الانقسام، وهذا ما أكدته زيارة وزير المخابرات العامة اللواء خالد فوزي إلى مدينة رام الله وقطاع غزة، وما دعم ذلك أيضًا إعلان حركة "حماس" حل اللجنة الإدارية وزيارة الحكومة إلى غزة لتسلم المعابر والوزارات وتمكينها في غزة، كل ذلك تم باستثناء الحديث عن سلاح المقاومة والأنفاق وأمنهما في قطاع غزة، كما أن ذلك ساعد مصر في إسقاط كل علاقات الانقسام من ناحية السلطة وإبقاء الحوار بين الحركتين في قلب العاصمة المصرية.
وهنا دعونا نقف لنتذكر بأن الانقسام تصرفًا لم يكن عبثيًا ومفاجئًا، ولم يكن أيضًا عن جهل بضرورة الوحدة أو ضعف الإدراك بما يحمله الانقسام من مشاكل وسلبيات على الحياة العامة في غزة.
وخلال السنوات العجاف الماضية تؤكد الأحداث بأن الانقسام ليس خلافًا سياسيًا بل هو خلافٌ بين إستراتيجيتين وسياستيين: إستراتيجية "اتفاق أوسلو والمفاوضات والتسوية"، وإستراتيجية "المقاومة الثوابت"،وما أظهر الانقسام بين الطرفين بشكل واضح لكافة الفلسطينيين هي انتخابات عام 2006 والتي فازت بها حركة "حماس" وأظهرت الخلاف الإستراتيجي العظيم بين الحركتين، وأخذ الخلاف حينها الذي تعنون تحت اسم "الانقسام" توصيفات مختلفة تبعًا لكل فصيل كـ "الحسم" و"الإنقلاب".
وهذا الخلاف الجوهري بين الطرفين، أخذ العديد من المحللين والسياسيين على تجريده من بُعديه الإستراتيجي والسياسي، حتى اعتبره البعض وسيلة جيدة للتوقف عن دعم الفلسطينيين، كما وصل بآخرين إلى اعتباره "مصيبة كبرى" ألمت بالشعب، كل ذلك دون أن يلاحظوا الفرق الإستراتيجي بين الطرفين وما حدث بغزة بعد الانقسام، حيث تحولت إلى قاعدة عسكرية مقاومة تعرضت لثلاثة حروب طاحنة دون إركاعها وفعليًا يمكننا القول بأن غزة أرضًا محررة من الاحتلال الإسرائيلي هذا من جهة، والجهة الثانية لو لاحظنا كيف أصبحت الضفة بعد الانقسام وبعدما تبنّت السلطة سياستها الإستراتيجية حيث انتشرت البؤرات الاستيطانية بشكل كبير واستمر الاحتلال في عربدته وانتهاكاته تجاه المواطنين بالإضافة إلى تعزيز التنسيق الأمني.
ولكن لم يتساءل كثيرون ممن طالبوا بإنهاء الانقسام: ما الحل مع الخلاف بين طبيعة وأهداف طرفي الانقسام الفلسطيني ؟، وما العمل مع الوضعين اللذين ترسخا خلال سنوات الانقسام ؟.
ولحتى الآن لم يتوقع أي متصور ما قدمت حركة "حماس" من تنازلات من أجل إتمام المصالحة وتحقيق الوحدة، لاسيما بعد دعواتها المتواصلة للسلطة من أجل تولي مناحي الحياة في غزة، ولكن دون المساس بسلاح المقاومة وأنفاقها وأمنها الذي لا يهم حركة "حماس" وحدها، بل الفصائل الأخرى أيضًا، كما ويمكننا أيضًا أن نعتبر قضية المقاومة وسلاحها وأمنها تهم المواطنين كافة في قطاع غزة، فالتنازل عن سلاح المقاومة يعد أمرًا جللًا وكارثيًا ومن المستحيل أن يتم الاقتراب منه، فتطور المقاومة كان من خلال تضحيات الشعب بعدما قدم الآلاف من الشهداء والجرحى وهو عنصر بالغ الأهمية، والآن يؤدي إلى اختلاف موازين القوى مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعبارة أخرى، هناك معادلة حديثة يجب أن تتكون وتتشكل بين السلطة والمقاومة، إذا أُريدَ للمصالحة أن تتم وأن تطوى صفحة الانقسام إلى الأبد، وإذا أُريدَ لمصالح الشعب الفلسطيني والقضية أن يحافظ عليها، وهي أن يكون الوضع المتبع في الضفة الغربية كـ"التنسيق الأمني" متبع في غزة كما يطالب الرئيس محمود عباس فهذا الأمر مرفوض بشكل نهائي.
والمضحك المبكي حينما تخرج قيادات فلسطينية بعد هذه السنوات وبعد إتمام المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية كريمة، تؤكد أنها ستمنع نقل تجربة المقاومة اللبنانية في ظل وجود حكومة لبنانية معترف بها دوليًا إلى قطاع غزة، قل خسئت تلك الأصوات إذ لا حل سوى ما يشبه التجربة اللبنانية في غزة بعد إتمام المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية.