بإصرار عجيب وتعنّد شديد في الموقف، حشرت حركة حماس الانتخابات الرئاسية مع نظيرتيها (التشريعية والمجلس الوطني) في زاوية ضيقة من المفهوم الأيديولوجي لكل من حركتي فتح وحماس، ما جعلني أتساءل: هل هذه ثقة زائدة بالنفس؟، أم أنها رفعت شعار التحدي بوجه حركة فتح ورئيسها أبو مازن؟، أو فعلاً تريد منصب الرئاسة قبل الحكومة.
لقد اكتفيت بهذه الأسئلة حتى لا أنغمس أكثر بموضوعي وأطرح أسئلة كثيرة وثقيلة. فالإجابات كالموج أعلى مني، ليس ضعفاً أو عدم مقدرتي على الفهم، بل لأننا نعيش في واقع صعب ومعقد، وحالة داخلية غير مُهيئة للانغمار في الانتخابات الشاملة، وذلك لعدم تحقيق المصالحة بين "فتح وحماس" بعد جولات وصولات في عدة عواصم عربية، وتفصيل الانتخابات وفق مقاس خاص لكل من الطرفين، والاعتراض على حكومة اشتية الحالية بحكم أنها شكلت رغمًا عن حماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية، وهجر قيادات "فتح وحماس" للقاءات الثنائية مع عدم تخليهما عن عادة الاتهامات المتبادلة وتحميل طرف مسؤولية ما آل إليه الوضع الداخلي منذ سنوات.
فالرئيس نشّط موضوع الانتخابات التشريعية وأصبح ينادي بها بكل خطاباته الداخلية والخارجية، تحديدًا عندما أوصت المحكمة الدستورية التي سمعنا أنها شكلت عام 2016، على ذمة الرئيس، بحل المجلس التشريعي المعطل من عام 2007 رسميًا والمفعل من كتلة حماس البرلمانية في غزة حتى يومنا هذا، والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية بعد 6 أشهر من تاريخ صدور القرار. فالسؤال الأكبر: كيف نجري هذه الانتخابات والانقسام بين "فتح وحماس" يزداد عمقًا وجرحًا في الجسم الفلسطيني منذ 12 سنة ولليوم؟.
"قطبا الانقسام"، المصطلح الذي يزعج قادتهما على أنه بحسب اعتقادهم تهمة تلاحقهما وهما بريئان منه، يعبران عن رغبتهما بالانتخابات العامة "التشريعية والرئاسية والمحلية"، احتكامًا لخيار الشعب ولتجديد الدماء في المؤسسات الوطنية والرسمية، لكن فتح رفعت شعار الانتخابات العامة مع مرادها تمكين حكومة اشتية الحالية في غزة كما كانت تطالب الحكومة السابقة، لكنها بذات الوقت تسعى جاهدةً لتنفيذ دعوة المحكمة الدستورية المتعلقة بإجراء انتخابات تشريعية. ما جعل الرئيس، يرسل رئيس لجنة الانتخابات المركزية حنا ناصر إلى غزة للجلوس مع "حماس" لإقناعها بالموافقة عليها، فخرج جواب الأخيرة كسرعة البرق على لسان عضو المكتب السياسي للحركة خليل الحية عقب اجتماع قيادة الحركة برئاسة هنية مع حنا ناصر في غزة، فقالت إنها جاهزة للدخول بانتخابات شاملة (رئاسية وتشريعية وهيئات محلية) ثم التوافق فيما بعد على انتخابات مجلس وطني الذي يعد من أجسام منظمة التحرير.
لو لم أطرح سؤالي في الأعلى، لطرحته عليكم مرة أخرى. فهذه الجزئية تجبرني على ذكر ذلك السؤال من شدة عناد "حماس" للانتخابات الشاملة. من الواضح أن "حماس" لديها قناعة بأن الانتخابات العامة لن تجرى إلا بالتوافق الوطني، إذ تصر "فتح" على تحقيق المصالحة وتمكين الحكومة أولاً ثم الذهاب إلى انتخابات شاملة، مع الالتزام ببرنامج المنظمة. ما أشرت إليه في جزئية الثقة بالنفس ورفع سقف التحدي مع "فتح"، تطابق مع رؤية الكاتب السياسي- المقرب من حماس، مصطفى الصواف الذي دار بيني وبينه حوار قصير حول هذا الموضوع، إذ قال لي، إن أدبيات وبيانات أكدت جاهزية الحركة لإجراء الانتخابات، ولدى الحركة الاستعداد لذلك من خلال عملها الجاد لإتمامها، ولا أحد يسمع ويرى يستطيع إنكار ذلك. وقاطعتُ حديثه بسؤال، وهو: أن فتح تقول إنها مع الانتخابات، وقبل أن أكمل، شكك في قدرة "فتح" على خوض الانتخابات "الرئاسية والتشريعية"، لأنها تخشى خسارتها وأنها ليست جاهزة لها. وأكد أن الذي يعني الرئيس في هذه المرحلة هو كرسي الرئاسة.
إن "فتح" ترغب بإجراء انتخابات تشريعية ثم تمهد للباقي (الرئاسي ومجلس الهيئات المحلية)، لأن الحالة الداخلية من وجهة نظرها هي نفسها التي ذكرناها سلفاً في هذه المقالة، مع التأكيد على أهميتها كونها استحقاق قانوني ودستوري كفله القانون الفلسطيني والذي أعطى المواطن حق اختيار من يمثله كل أربع سنوات، لكن الرئيس عباس استمر في السلطة إلى يومنا هذا، لا سيما أن ولايته الدستورية انتهت بعام 2009، بينما شهدنا أكثر من حكومة بعد تاريخ الانقسام. معظمها شكلت بقرار من الرئيس وواحدة شكلت عام 2014 بالتوافق الوطني. وهذه الرغبة جعلت الصواف الذي يعد من أقدم الإعلاميين الفلسطينيين في قطاع غزة، ويمارس مهنة الإعلام من ثمانينات القرن الماضي والقريب من صناع القرار داخل "حماس"، يعتبرها أنها مجرد "حجج واهية" ليس أكثر، وقال إن إجراء الانتخابات بشكل كامل بالتوازي، مسألة ترجع إلى الخبراء والفنيين الذين يقيمون ويقررون متى وكيف تجرى؟.
بلا شك أن الانتخابات في شقيها الرئاسي والتشريعي ضرورة سياسية ومطلب شعبي متكرر، نظراً لانتهاء كل الشرعيات في فلسطين، فالرئيس منتهي ولايته من 2009 ويستمد قوة مركزه من منظمة التحرير ومؤسساتها المتمثلة بالمجلسين الوطني والمركزي، بينما (تشريعي وحكومة حماس)، منتهيان أيضاً حسب القانون، فلننهي حالة الجدل حول الشرعيات، ونحتكم إلى صندوق الاقتراع ونترك المجال للشعب، أم أنه منتهي الشرعية !
وبعد ما سبق، أوقعت نفسي في سؤال آخر استقر في رأسي من مدة وجيزة، وهو" لماذا يصر الرئيس على إجراء انتخابات تشريعية دون غيرها؟ في ظل معارضة "حماس" لها وإصرارها على إجراء انتخابات عامة (رئاسية وتشريعية ومجلس وطني). إذ أن مؤسسات المنظمة ثقيلة ويصعب زج حماس والجهاد الإسلامي بها قبل إنهاء الانقسام. لقد تذكرت أن للمنظمة استحقاقات سياسية ومن ضمنها: الاعتراف بإسرائيل وقبول بدولة على حدود 67، فالجهاد لن تقبل، وحماس غير معترفة بإسرائيل وتدعم قيام الدولة التي تنادي بها القيادة الفلسطينية.
وإذا انتقلت إلى العكس، وسألت: لماذا لا توافق حماس على الانتخابات التشريعية، ثم بعدها تذهب إلى انتخابات رئاسية ومجلس وطني؟. إذن فالتوافق عليها، وأن تتسلح بحاضنتها الجماهيرية التي أكسبتها انتخابات 2006، أم لها حسابات أخرى، كانتزاع منصب الرئاسة من "فتح" والإطاحة بأبو مازن وجلب شخص آخر ترتاح له، مثل: محمد دحلان، لاسيما أنه خيار مطروح ومقبول لديها، حيث أستبعد أساساً ترشح حماس للانتخابات الرئاسية.
من خلال قراءتي لتصريحات قادة (فتح والسلطة) الذين يسعون إلى تحويل المجلس التشريعي إلى برلمان دولة، بعد حصول فلسطين عام 2012 على دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، توصلت وأنا متجردُ من أي ميول حزبي وسياسي ومبتعدًا عن أساليب التلميع والتطبيل للطرف الأصفر والأخضر في مقالي هذا، إلى إجابة، وهي: إن الحالة الفلسطينية اليوم غير قادرة على الانغمار في انتخابات عامة في ضربة واحدة، وإنما على مراحل تبدأ بالتشريعي، والطرف الذي يكسب يشكل الحكومة كما جرى عام 2006، ثم بسط الأرضية الديمقراطية بفراش الانتخابات الرئاسية، مع إني توصلت إلى قناعة بأن الطرفين لا يرغبان بالانتخابات، كونهما يريدان التقسيم الوظيفي داخل السلطة، فحماس تريدها في غزة، لخدمة مصالحها الحزبية واعتمادها في تمويلها بالأساس على الضرائب والجباية الداخلية والاستمرار بمسلسل ذبح المواطن المنهك من الحصار والمعذب من الانقسام، مع استمرار صيت "الحصار" لإرسال مساعدات وتموين لغزة، وتحميل الاحتلال مسؤولية أزمات غزة المتراكمة وإعطائه الهدوء مقابل موافقته على دخول منح مالية وتوسيع مساحة الصيد وفتح المعابر وكهرباء، ونبقى نعيش في استحقاقات التهدئة الوهمية.
بينما فتح تريد البقاء في سلطة وهمية ومعدومة الصلاحيات وفاسدة ومفلسة مالية ومصطنعة أزمات مالية، ومرتبطة أمنياً واقتصادياً مع الاحتلال، وسياسية عقيمة وفاشلة داخلياً، لاعتقادها أن السلطة تمثل إنجازًا سياسيًا ومكسبًا للشعب الفلسطيني. وليس لديها مشكلة إذا استمرت بهذا الحال لعشرين سنة قادمة.
لكي لا أظلمهما، فهما يرفعان شعار "الوحدة الوطنية". الوحدة الغائبة والفاقدة للقرار الوطني والراحم لحالتنا المبكية، التي قد يحييها في نفوس أبناء الشعب الفلسطيني، حيث أتمنى أن أكون مخطئاً بحقهما وأن تكون السلطة ليست بهذه الصورة وأن تكون فتح جادة في المصالحة مع حماس، وألا تتحجج على أقل شيء، في حال قابلت أي موقف بسيط قد يعيق آليات تطبيق المصالحة، وأن تغير معاملتها تجاه غزة وموظفي السلطة خاصة، لكي نزيل شعور الناس في غزة بأن "الضفة تتعامل معنا بعنصرية وتفرق بين أبناء الشعب الواحد، وتعاقبنا بسبب حماس"، كما أسمع منهم وأقرأ منشوراتهم وتغريداتهم على مواقع التواصل من الناس في غزة.
وكذلك أن تعيد حماس حساباتها وتشرع بمراجعة شاملة لتجربتها في الحكم، والبحث عن أساليب وطرق تلطف بها صورتها أمام الناس، وتترك التفاصيل الصغيرة المعرقلة لطريق الوحدة جانبًا، وأن تبادر بنفسها وتطلب من فتح القدوم إلى غزة والعمل على تمكين الحكومة الحالية للوصول إلى انتخابات تشريعية بعدها نتوصل إلى اتفاق لتحضر القوى نفسها إلى الانتخابات الرئاسية مع ضمانات عربية ودولية. فهذا هو المخرج الحقيقي لأزماتنا الداخلية.
أما هذا المشهد، وبعد 12 سنة من الانقسام والضياع والحصار وتآكل مشروعنا الوطني واستمرار الاحتلال ونهبه لأرضنا ومواردنا، وطمس هويتنا الوطنية في أماكننا المقدسة، وتخاذل المجتمع الدولي في تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وضعف موقف أشقائنا العرب تجاه قضيتنا ولهفتهم نحو التطبيع مع إسرائيل، وشعورنا بالإحباط الذي أفقدنا حلم التخلص من الاحتلال وإقامة دولتنا المستقلة. يُستبعد إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في آن واحد، أو حتى تجديد الدماء في مؤسسات منظمة التحرير كالمجلس الوطني والمركزي، بناءً على المؤشرات التي تدل أننا في حالة جمود سياسي رهيب، قد تتفكك إذا تمكنا من اقتلاع الانقسام من شرشه المثبت بشراسة بباطن الأرض وإعطاء المواطن الفلسطيني في الوطن والشتات ومخيمات اللجوء، الحق في اختيار من يمثله لبناء مؤسساته الوطنية والرسمية من جديد، لتفتح الأبواب المتآكلة من صدأ الانقسام نحو الانفراج السياسي وإعادة اللحمة للبيت الفلسطيني، لكن هذا مرتبط بالإرادة السياسية وتعزيز الثقة بين "فتح وحماس"، للتفرغ للقضايا الكبرى والاتفاق على مشروع وبرنامج سياسي واحد يتفق عليه الجميع، ويمكن الشعب من الصمود ويزيد قدرته على التصدي للاحتلال الإسرائيلي ولكل المخططات الرامية لتصفية قضية الشعب الفلسطيني وتحقيق حلمه في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
بقلم ليث شحادة: صحفي وكاتب فلسطيني
إيميلي الشخصي: [email protected]
حسابي على موقع فيسبوك: www.facebook.com/laithshehada
حسابي على موقع تويتر: twitter.com/laithshehada1