تزامناً مع ما يجري على الجدار, انطلقت حكايات أخرى داخل قطاع غزة, ترويها الفصائل الفلسطينية كما أعتدنا, هي من تشعل الفتيل وتوقد النيران وهي وحدها بمقدورها إطفاءها, فليس بالإمكان أن تكون أقل من ذلك.
في يوم الأحد الماضي بعد حادث وضعت فيه عبوة ناسفة على الجدار أطلقت دبابة إسرائيلية النار وقتلت ثلاثة من الجهاد الاسلامي كانوا في موقع مراقبة قريب, هذه الحادثة كانت ذروة الفتيل المشتعل, فما كان لها إلا التهديد بالرد فهي لا تبيت الرد كعادتها عند المس بأحد جنودها, وبالفعل أطلقت عشرات القذائف وتم اعتراض بعضًا منها من القبة الحديدية.
توازنات الرد بين الجيش الاسرائيلي وحركة الجهاد الاسلامي نقل جل الصراع إلى أبعد من تطوير أسلحة للرد على أي عمليات داخل القطاع بل تطورت منظومة الرد لدى حركة الجهاد الاسلامي وأصبح بإمكانها أن تقرر بنفسها رغبتها في تصعيد الأوضاع أم لا، وبالتالي فإن إسرائيل مدركة تماماً بأنها تتعامل مع أكبر من حركة داخل قطاع بل إنها مدركة بأنها تتعامل مع قوة خفية داخل هذا التنظيم وهي إيران.
ما يجري تداوله في الصحف الاسرائيلية عن حدوث انشقاقات داخل الجهاد الاسلامي بين طرف تابع للإخوان المسلمين وطرف تابع لإيران ورغبة الطرف المنحاز لإيران بإشعال فتيل الجبهة الجنوبية هو ما يبرز صورة الجهاد بالنسبة لإسرائيل ومدى القوة التي أصبحت تمتلكها بالرغم من قدرتها على احتوائها.
حسابات التصعيد كانت محسوبة من البداية على أنها رد فعل على حادثة كما في كل مرة ولكن جر حماس إلى بوتقة الرد والتعامل مع الحدث هو ما كانت لا تريده حماس الآن, رغم أنها معنية بتصعيد الأوضاع لأبعد من ذلك ولكن هناك حسابات أخرى باتت تدخل خانة الحكومة في قطاع غزة.
بعد سلسلة من الضربات التي شنتها قوات الاحتلال داخل القطاع, تدخل الطرف المصري للتوصل إلى اتفاق هدنة, بعد دراسة المعطيات وافقت الفصائل الفلسطينية على الهدنة على أن تبدأ عند منتصف الليل، في الوقت ذاته شعرت إسرائيل بأن الوقت لم يحن لوقف النار, وقامت بتوجيه عدة ضربات أخرى لحماس والجهاد من أجل ضمان الردع.
ورغم أنه لم تصدر أي اشارات لرغبة إسرائيل برفض الهدنة, إلا أن الفصائل لم تتوقف عن الرد بل استثمرت وقت التفاوض لتوصل لهدنة في توجيه الصواريخ لإسرائيل, في ظل هدوء إسرائيلي غريب ولكن لم يستمر طويلاً فما أن تعدت الساعة 3 صباحاً حتى عادت إسرائيل وقالت كلمتها وردت على كل الأهداف التي أبدت لها سكوت, فذلك يظهر طبيعة الكينونة الداخلية لإسرائيل بأن تكون هي صاحبة الكلمة الأخيرة دائماً.
يمكن القول بأن تبادل اللكمات العسكرية بين الطرفين ستؤثر سلباً على ما يجري في المظاهرات نفسها التي يتوقع أن تحدث في نهاية الاسبوع, وقد سبق لحماس وأعلنت أن في نيتها تركيز جهودها على الجدار في 5 حزيران، وهو الذكرى السنوية لحرب الأيام الستة، وفيه إحباط لجهود أسابيع من التظاهر لإحراز نقاط حقيقية للتخلص من أزمة القطاع الانسانية.
استمرار تبادل إطلاق النار في ظل الجهود المصرية المبذولة للتوصل إلى اتفاق من شأنه وقف النار المطول (الهدنة)، من الممكن أن يصعب الأمر على مصر، وبالتالي فإن تركيزها سيكون لمحاولة لوقف الهجمات المتبادلة قبل أن ينزلق الطرفين إلى حرب.
لو كانت القذيفة التي أصابت روضة الأطفال في إحدى بلدات غلاف غزة أطلق بعد بضعة دقائق لكان أصيب الأطفال وأهاليهم. وما كان مفر من قرار بهجوم بري في غزة، وبالتالي لا يمكن المراهنة على هدوء في الأوضاع الحالية, ولا يمكن الغوص في احتمالات الحرب والجر إلى حرب شاملة مفتوحة بين الطرفين, كلاهما لهما اعتبارات بعضها معلن وبعضها طي الكتمان وكلاهما محكومان بقواعد اللعبة المحدودة النطاق, فهناك للطرفين طرق خروج ممكنة قبل الصعود إلى مسار المواجهة و التصادم، رُغم ذلك "كل برميل له قاع", ولا بد للأمر من نهاية.