الخيارات السياسية الخاسرة في المدينة المظلمة
إن التركيز العميق في مجريات الأحداث السياسية الدائرة في قطاع غزة, تلقي علينا غطرسة الاكتئاب الدائم الذي لم يستطع سكان القطاع التخلص منه بأي وسيلة كانت, لا حلول معروضة تجعل المستحيل ممكن, ولا قيادات سياسية قادرة على إنقاذ الاخفاقات المتتالية للحالة الفلسطينية.
الخوض في جدلية إيجاد الحلول السياسية التي تمكن القيادة السياسية من تحقيق إنجاز سياسي ينقذ القطاع من حالة البؤس والفقر المحيط, هو أمر طال الحديث فيه, رغم كثرة الحلول التي طرحت إلا أنها كعادتها تجد المطبات التي تجعل منها مجرد وعودات فارغة وحبر على ورق.
ما يجاريه قطاع غزة اليوم من تذبذبات في مسار المصالحة والتهدئة والمفاوضات يجعل من عمق الجرح النازف صعب الاندمال, في الوقت الذي تحاول فيه بعض الجهات السياسية داخل القطاع التوصل لعمق واضح للحل نجد أن الطرف الأخر مازال يمارس سياسة الانفراد في مسار القضية الفلسطينية مع أن الحكومة سواء داخل القطاع أو الضفة الغربية تحمل راية الانقاذ السياسي, ولكن يبدو وأن المصالح المتعارضة تعكس جوهر الخلاف السياسي وتجعل من الأنا المجردة لكل طرف هي غاية مؤهلة للتحقق.
لا شك أن إطلاق بادرة الحل السياسي من داخل القطاع أمر جديد على الآذان, فانقسم فيه الناس بين مؤيد ومعارض, ولكن ما المصيبة من التوجه لخطاب سياسي أكثر اتزان في ظل القهر الحالي الواقع على كل أفراد القطاع؟, مع التأكيد على أن كل حل يعرضه طرف سيواجه بالمعارضة من الطرف الأخر, لأن ذلك شيء رصين متمكن من النفس الفلسطينية, منبعه الانقسام الذي أكل وما زال يأكل أعمار متوالية من حياة القضية الفلسطينية التي وبفضله أصبحت هامش من هوامش القضايا السياسية في الساحة العربية وإن كان لها صدى على الساحة الدولية فلم تعد كالسابق.
من المهم التأكيد على أن عدم إمكانية التوصل لاتفاق المصالحة بجهود إقليمية ودولية ليس بالأمر الجديد, فالمصلحة طاغية والتفردية أيضاً, الطمع بإمكانية الحكم السياسي لكل المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيين من جهة السلطة الفلسطينية هي أنانية مطلقة, ولكن لا نلقي اللوم على طرف فالجانب الآخر على ما يقدمه أيضاً يعثر الحلول بطريقة أو بأخرى, فمن المجدي معرفة أنه وإن قدر إمكانية التوصل لحل بين الطرفين فهو لن يجمع بين الضفة الغربية وقطاع غزة, ولن يتمكن من إنهاء المعترك الدائر داخل قطاع غزة.
ما تعرضه الساحة الفلسطينية من ولوج أصوات أخرى تدعو للتوصل لاتفاق تهدئة مع إسرائيل بفرض شروط فلسطينية مجزية هو أمر جدير بالتقدير, فبداية الخروج من الدائرة المغلقة للحوار السياسي أمر يشاد به في الأوقات الحالية, حتى وإن لم تجد مجيب فهي كفيلة بجعل آذان المنظومة الدولية تؤكد أن لا إرهاب في غزة وأن الحقوق المطلوبة مشروعة إنسانياً ودولياً لكل شعب يدافع عن حق تقرير المصير.
فلا شك أن إرهاق العقول الفلسطينية بوعودات كاذبة أصبح أمر مكشوف للعيان, فالمواطن في قطاع غزة قادر على تميز الصواب من الخطأ وقادر على اتخاذ قرار يتعلق بقيادته السياسية, فالهجوم على السلطة الفلسطينية على علاتها ليس بالأمر المقبول, فبالرغم مما يقوم به رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن من اجراءات وممارسات لتضيق الخناق على سكان القطاع من خلال تقلّيص توريد الكهرباء وعدم دفع الرواتب، ومواصلته التهديد بإجراءات أكثر قسوة, لدفعهم لتصعيد إلا أن الفلسطيني ما زال يتمسك بنضال أبو عمار ومقاومته الباسلة للعدو فلا يمكن نكران سنوات من النضال التي قامت بها حركات التحرر التي تتبع السلطة الفلسطينية الآن, ومدرك أن لا أحد من الطرفين بريء فأي إجراء يمارس على حماس واقع على الشعب أولاً وهو جزء من الخلاف بينهما, وبالتالي مدرك أن الحل يكمن إما بالانتخابات أو المصالحة, وبعد سنوات طويلة من محاولة التوصل للمصالحة ندرك بأنها ليست خياراً يمكن التعويل عليه.
لا شك أن خيار التسوية السليمة مع العدو هو خيار محدود لأطراف ولكنه شكل وتر حساس للسلطة الفلسطينية التي لطالما كانت هي صاحبة المبادرة في التفاوض مع العدو, فقد أدركت أنها اصبحت أمام خصم لا مانع لديه في التوصل لاتفاق مع عدو لطالما رفض معه النقاش والجدال مع التأكيد أنه لا يجمع موافقة كل أعضاء الحركة فحتى في إسرائيل لا يوجد موافقة كلية على الخوض في حوارات بين الطرفين, فرئيس الحكومة الإسرائيلية " بنيامين نتنياهو" يمارس عليه ضغط من الأسفل، من وزير الجيش أفيغدور ليبرمان الذي يدّعي بأن محاولة التوصل لتسوية مع حماس هي تضييع وقت، وأن إسرائيل الآن أمام خياريْن غير مريحيْن: إما اختيار المواجهة مع حماس في غزة أو السير مع حماس في غزة ودفع الثمن في الضفة الغربية. هذا أو ذاك، نتنياهو أمام اتخاذ قرار حاسم. ورغم ذلك لا تستطيع إسرائيل التضحية بالتنسيق الأمني في الضفة الغربية, فهي ستبقى أمام فترة طويلة من التفاوض مع حماس وبكل تأكيد لن يتم التوصل لاتفاق حاسم يرضي كلاهما.
من الجدير ذكره والتأكيد عليه أن كلا الطرفين لم يقدما أي حل يشاد به, فأبو مازن لم يقدم إنجاز على الساحة الدولية وهو معزول الآن من قبل الولايات المتحدة الأمريكية, وحماس تشعر بالقلق فالأزمة الإنسانية الصعبة جدًا في تفاقم, المساعدات التي تُقدم ليست دائمة في ظل التجاهل العربي, فلم تعد القضية الفلسطينية لهم قضية جوهرية مطروحة للنقاش في المقدمة.
نحن كفلسطينيين لا نخشى النظر بكل الحلول, لأننا وبكل الأحوال دائماً ما تفرض علينا العديد من الأمور التي لا نرغب بها, فخلاف السلطة الفلسطينية مع حماس سيجلب مزيد من المتاعب لسكان القطاع وبالتالي تعثر في مسارات المصالحة في القاهرة, عدم إمكانية التوصل لاتفاق تهدئة يمكن أن يجلب الحرب ولكن على الأقل ليس في الفترة الحالية, أما العثور على بديل دولي لاستمرار للمفاوضات المباشرة بين السلطة وإسرائيل بدون الرعاية الأمريكية هو أمر بعيد جداً ومنذر بالفشل في حالة حدوثه, جل ما علينا الالتفات إليه هو اللجوء لإنجاز المصالحة وتحقيق الشراكة السياسية والتخلي عن الأنانية الحزبية السائدة.