لم يكن الأمر بحاجة إلى كل هذه السنوات لتعرف حركة حماس أن لا مخرج سوى التكفير عن خطيئة العام 2007 ولم تكن بحاجة إلى قائد بحجم يحيى السنوار ليعرف وحده دون غيره أن لا حل لطفل في مستشفى إلا بالمصالحة وإعادة غزة للسلطة أو إعادة السلطة لغزة.
هل يتعلق الأمر بانتخاب السنوار قائداً لقطاع غزة حتى يذهب بكل هذه الخطوات وبسرعة شديدة؟ أم أن الأمر يتعلق بنقل مركز ثقل الحركة لقطاع غزة بعد احتكار الخارج لرئاسة المكتب السياسي لأكثر من عقدين؟ تكرس هذا الاحتكار بعد استشهاد الأب الروحي للحركة الشيخ أحمد ياسين وبعده الدكتور الرنتيسي ليتفرد الخارج بكل شيء، أم لأن ظروفاً دولية وإقليمية استجدت؟
من يقرأ التاريخ يعرف أن له مسارات محددة بغض النظر عن رجال المرحلة ولكن الحقيقة التي يمكن رؤيتها بوضوح أن هناك بصمات حادة ودورا هائلا لشخصيات تمكنت من تغيير مجرى التاريخ، هتلر دمر أوروبا عندما أقدم على مغامرة اجتياح إقليم «سوديت» النمساوي وجمال عبد الناصر تمكن من تغيير وجه المنطقة العربية لعقدين من الزمن وياسر عرفات صنع ثورة تمكنت من إعادة تسجيل الفلسطيني في دفتر الحضور الكوني بعد غياب.
حتى في الدول الديمقراطية ذات المؤسسات العريقة يلعب الفرد دوراً في رسم السياسات بالرغم من ثبات الرؤية التي تضعها تلك المؤسسات، فتوني بلير في فترة ما ألحق بريطانيا بالولايات المتحدة وفي لحظة ما اعتبر موظفاً لدى البيت الأبيض وخصوصاً أثناء العدوان على العراق وما بين سياسة جاك شيراك الفرنسي وخليفته مسافة كبيرة وهكذا.
ارتكبت «حماس» أم الكبائر قبل عشر سنوات عندما قررت بمغامرة غير محسوبة السيطرة على قطاع غزة وتسببت بهذا الحصار وبكل ما حدث لقطاع غزة، ولم يسأل أي من قادتها الى أين نحن ذاهبون بهذه الأجيال التي دمر مستقبلها، وكل ما شهدناه هو عملية تبرير لكل ما حدث دون أن يسأل أحد عن مستقبل غزة ومستقبل حركة حماس نفسها التي أغلقت على نفسها الباب ولم تتقدم طوال عقد لا على مستوى شرعنة حكمها ووجودها ولا على مستوى علاقاتها الخارجية باستثناء دولة صغيرة مثل قطر ودولة أخرى هي تركيا.
تآكلت شعبية الحركة في القطاع خلال سنوات حكمها دون أن يدفعها لإجراء مراجعات أو خطوة للخلف حفاظاً على ذاتها، بل استمرت غير آبهة بكل الأصوات التي طالبتها بالتراجع وهنا ربما ما جعل نشطاء التواصل الاجتماعي بعد لقاء قائد «حماس» بقطاع غزة بالشباب يشيدون بالرجل كحالة منفصلة تماماً عن الحركة بل وصل بعضهم الى حد مطالبته بمحاسبة ومحاكمة من تسببوا لسكان القطاع بهذه الكارثة.
يبدو أن السنوار، الذي يشق طريقه نحو الزعامة بسرعة كبيرة، هو الأكثر حنكة في إدارة السياسة والأكثر ذكاء في الحفاظ على حركته التي بدأ الكفاح فيها مبكراً من الكثيرين الذين اعتقدوا أن مصلحة الحركة تكمن في حكم قطاع غزة ولا شيء غير غزة والاستمرار بهذا الوضع الى ما لا نهاية بغض النظر عن تداعيات هذا الحكم وعن كم الأزمات الذي يستولده.
اذاً، خطوة للوراء من أجل خطوات للأمام أفضل من هذا التمترس الساذج، وتلك سياسة حكيمة يتبعها الرجل المصمم على التراجع خطوة الى درجة أنه سيقطع رأس من يعترض طريق المصالحة كما قال في لقائه مع الشباب وهو يحاول إخراج حركته وإخراج الغزيين من عنق الزجاجة التي أدخلهم فيه إخوانه قبل عقد، فلا المصلحة الوطنية تحققت ولا المصلحة الحزبية لحركته تقدمت سوى أن بعض الشخصيات حصلت على مواقع ومسميات بنظر الرجل هي بلا قيمة أمام المشروع الوطني وكذلك مشروع الحركة الذي انطلقت من أجله.
بكل الظروف تمت المصالحة أم لم تتم، واضح أن الأمور تسير بانسيابية مبشرة حتى اللحظة، فغداً ستكون الحكومة بغزة تتسلم مهماتها ووزاراتها، لكن في الحالتين فإن ذلك أفضل خيار وأهم قرار اتخذته حركة حماس منذ دخلت انتخابات 2006 وتأبطت غزة، فإذا ما تمت المصالحة والمؤشرات تبدو كذلك هذا يعني أننا أمام أشهر للانتخابات تدخلها حركة حماس كجزء من النظام السياسي مستفيدة من تجربة الماضي وأخطائها التي لن تكررها ومستندة لوثيقة مرنة واذا ما أبدت مزيداً من المرونة هذا يعني قدرتها على تشكيل حكومة السلطة الوطنية في الضفة وغزة بلا حصار وبلا تكرار لتجربة الفشل.
ستدخل «حماس» الانتخابات بقيادة منفتحة وموحدة وبرنامج أكثر انفتاحاً فيما منافسها القوي حركة فتح تشهد تشققا في جدارها قد يضمن لحركة حماس أن تكون القوة الأولى فلسطينياً اذا ما استمر التصدع داخل حركة فتح والتي لم تتجاوز «حماس» حتى وهي موحدة في آخر انتخابات العام 2006 فلماذا تستمر في إغلاق الباب على نفسها في غزة بكل هذا العناد الخاسر؟ ربما أن تلك كانت حسبة السنوار وهي حسبة صحيحة تماماً.
أما اذا تعثرت المصالحة وهذا سيناريو أخذ يتراجع أمام التطورات على الأرض هذا يعني أن الحركة ستعود لمصر التي ألقى الرجل في حجرها كل ملف المصالحة وقدم ما يكفي من المرونة محملاً الآخر مسؤولية التعثر، ستطلب الحركة من مصر استحقاقات تسهيل حكمها بغزة وتفعيل التفاهمات التي تم الاتفاق عليها في حزيران الماضي وتسهيل حركة المعبر والتبادل التجاري وغيره.
اذاً، حركة حماس كانت بحاجة الى قرار حكيم غاب طوال السنوات الماضية الى الدرجة التي لم تعرف حتى مصلحتها، وفي إطار ذلك كان المشروع الوطني يتآكل بفعل هذا الانقسام وهذا العناد فهل كان يحتاج الأمر الى رجل واحد كي يفكر بمنطق؟ أم أن الأمر له علاقة بإنهاء ولاية السيد مشعل حتى تنطلق الحركة؟ بكل الظروف «حماس» بدأت تجيد لعبة السياسة وقد دعاها الكثير للتراجع سابقاً ولكنها لم تكن تجيد القراءة والاستماع الى أن جاء الرجل الذي يرسم لها خارطة طريق ويكسر رأس من يعترض تطبيقها...!!!